04‏/12‏/2015

دعوة لعدم الفهم




إنها لذة العصيان يا رفاق، هل تصدقون؟
شعور بالاسترخاء، يتبعه تحليق منتشٍ، ثم هبوط ملائكي ناعم.
تركيز معمَّق في المرئي والمسموع.. وحتى الملموس.
لا تحدثوني عما أفهم،
إن دمي يحمل كل ساعة جبلا من السكر يحترق كله داخل جمجمتي
وإنني أفهم كيف تعمل أداة التكييف، ولِمَ أغمض عيني عندما أنام
فلا تحدثوني عما أفهم.
بل حدثوني عما لا أفهم،
لكي أكون جديدا.. طفلا.. فضوليا.. وعنيدا!
اتركوا لي نافذة أتشمم منها ريح الاغتراب
أنا متوطِّن في كل ذرة غبار، فرُحماكم.. رُحماكم.

دعوني أدخل قاعة أوبرا
اتركوني وحيدا واسهروا في أي مكان
دعوني أكن دخيلا، ومنفعلا، ومبهما، وحريصا
دعوني أحصِ أنفاس السيدات الشقراوات
وأنحت في الذاكرة أشد الوجوه تشنجا وحماسا
دعوني أفسِّر ما أسمع كما أشتهي
دعوني أوجِّه الكلمات إلى من أحب
دعوني أحتسِ طبقة "السوبرانو" كاملة وأصفق في النهاية لحواسِّي وحدها
ثم افعلوا بحواسكم ما تشاؤون.

أوهٍ، ما أقسى فهم الأشياء
فهو يجعلني قطا كسولا وعابسا
لكن ما أقول لكم؟
إنني هكذا، وأنتم كذلك.
نفهم لئلا نسأل مرة أخرى
ونحفظ لئلا نضيع
وهذا هو دأبنا.

لكنني حينما أستمع الأوبرا
يدغدغ روحي شعور بالتفرُّد، والنشاط
تُبعث أنفي من مرقدها.. تغوص في عمق الرائحة
تنمو أصابعي.. تتحسس دفء مقدسا لا تعرفونه
يقف شعر ذراعيَّ إجلالا للحظة عظيمة
وأفسر كل الكلمات، الحركات، التنهيدات، الانحناءات.. أفسر كل شيء كما أشتهي
أعود إلى الفضول الأول
الذي سيجعلني أتقدمكم بخطوة إلى جنة العصيان.

أنا ذكي وسريع التلقي مثل سلك كهرباء عارٍ
وبإمكاني أن أتعلم الإيطالية في شهر واحد
وبإمكاني أن أشرح لكم بعدها ما يقال بالضبط
لكن، من يقول إن هذه هي اللذة؟
كلا.. كلا...
اللذة شيء آخر
وهي عندي ليست كما عندكم
فأنتم الفهَّامون، وأنتم المفسِّرون
أما أنا.. فيكفيني التلذذ المجرَّد.. انظروا إلي عندما أبكي
هل تذرفون دمعة واحدة؟
هذا لأن جماجمكم مشغولة كمدينة

جبل السُّكر سيذوب في فمي
ما أحلاه ذائبا في فمي.. وفي عينيّ وفي رئتيّ
فلتصوِّت أيها الخصيُّ ولتقل ما تشاء
فإنني لن أردد وراءك كما يفعلون
سأخلقك، وسأخلق كلماتك ومعانيك، وسأخلق فعل الغناء فيك
وسأتلذذ.


01‏/12‏/2015

اعترافات تحت تأثير فارينيللي





الآريا-1
عندما تشمين رائحة الشواء، أطلِّي من نافذتك، يا جارة. 
هذا دخان شهوتي المتصاعد ليلمس أرنبة أنفك الوادعة.
وأنت رائحتك تحيي الرضيع في داخلي.. الذي لا يشعر إلا بملمس ثيابك القطنية. 
وهذه هي كل إحساساته. 
فكم أنت كريمة، وستكونين. 
فلتنشري نظراتك القروية في أطراف النافذة.. 
فلتحلمي بأن آتي كل ليلة. 
وسأشوي لك حقل ذرة كلما حلمتِ. 

الآريا-2 
كنتِ واقفة تحت الشمس، أصابعك الزنبقية كانت تتمسك بذراع أبيك. 
وقبَّعة الخيزران على رأسك كانت تجعلني طائر دوري لا أكثر.
فتاةً كنتِ.. والآن أنت أم. 
وعنقك المتعرِّق في الضحى لم يتركني أكبر. 
فها أنتِ ذي كبيرة..
وها أنا ذا لم أزل طفلا جائعا. 
فما الذي حدث؟ 

الآريا-3
حبوتُ على ركبتيَّ ويدي هاتين.
وحملت لك في فمي كلمتين خطفتا الطمأنينة من وجهك.
"دعيني ألمسك".. قلتُها بشجاعة الصوفيين.. "دعيني ألمسك".
وكنت ساعتها خارجا من زنزانة جدي
الذي كان يتوضأ عندما يلمس جسد جدتي
حرص جدي على تعليمي هذا الحد بين الذكر والأنثى
ولكنني عندما لمستك، أشفقت على جدي.. وبدون أن أشعر توضأت بأنفاسك الغاضبة.

الآريا-4
وما الذي حدث؟
جاء أبوك ووجدني ألوِّن أظافر رجليك بطلاء أمي الأحمر.
صرخ: أيها الكلب.. فهربت. 
صرخ: أيها اللعين.. فلم أسمعه، لأنني كنت حينها أستلقي على سريري
وألعق أصابعي التي لمستك.
ضحك أبوك كما حكيتِ لي.. ووعدكِ بأن يحفظ هذا السر بينكما. 
الآن أن أقول لك، وأنت أمٌّ: إني أقدِّس أصابع رجليك
وإن كل الخصلات السوداء النائمة على أكتاف عذارى العالم لا تعنيني
وإن رائحة كل العطور تجعلني أتحسس وأعطس ما لم تكن من أنفاس بشرتك الزيتية.

الآريا-5
النسيم فكرة لذيذة.. ومن اللذيذ أنه يهبُّ النسيم.
فهو عندما يلامس جفاف وجهي، يخبرني بأنه جاء للتو من جسدك.
كم أن هذا رقيق.. النسيم يحرك ثيابك، فيضطرب قلبي.
تتأوَّهين من النسيم، فيضحك قلبي.
ثم قبل أن أنام هانئا كل ليلة أتحمم بالنسيم العائد منك.

الآريا-6
تتجسدين داخل جمجمتي
مثل حوائط كهف دافئ
أمزق ملابسي، ثم أحكُّ جسدي الميت في صخوره المسننة
تتدفق جروح عذبة.. أنتشي.. أسألك منديلا مسحتِ به وجهك ذات ظهيرة
ففي مناديلك عبق الحليب الدافئ
وأنا لم أزل جائعا. 

الآريا-7
سنتأرجح كفقاعتين، سيقلِّبنا النسيم طويلا، ثم سنلتصق.
وعندما نلتصق سوف تتغشَّى كل شعرة فيَّ موطن شعرة فيك.
وبعدها سيخبو هذا التنميل الثقيل
الذي ينتشر في أعصابي كقطيع من الماعز.
وما الذي سيحدث؟

الآريا-8
ننجب أولادا كأنهم الغيم.
وإن لم ننجب أولادا كأنهم الغيم، فسوف ننجب قصائد.
وسيَّان عندي الولد والقصيدة.
بل إن القصيدة ستحمل ذكرنا وتسافر بها إلى الأبد.
وإذا انفجرنا يوما لأن إصبع النسيم طعنتنا
فستبقى قصائدي وثيابك القطنية خالدة
تنبعث منها سخونة الحياة
وسنبقى دافئين، مسكننا تعاريج الأدمغة، وخفقات القلوب.


30‏/11‏/2015

قصة قصيرة: قرَف



اللوحة لـ Victor Rodriguez

كانت أمها عندما تتباهى بها تصفها بالجميلة المطيعة، ولكنها كانت مطيعة فحسب، فوجهها الصافي والموسيقيُّ الذي يشع منه لون القمح لم يعجب رجال القرية الذين كانوا يفضِّلون وجوها بيضاء.
تعلمت منذ الطفولة كيف تلوذ بالعزلة والصمت عندما يرتفع صوت والدها، وتعلمت كيف تناوله أظافرها راضيةً عندما يصرُّ على تقليمها بأسنانه القذرة صارخا: "هذه مقاعد للشيطان يا بلهاء"، ثم تنظر إلى أصابعها وقد بقيت آثار الطلاء شاهدة على نقصها. لم يملك أحد في البيت مهما كان أن يدافع عنها ويعترض على ما يفعله الأب العصبيّ. 
حاولت أن تحتمل الضربات النفسية والجسدية التي كانت تذوقها كل يوم بصمت، فهي على الأقل تحيطها بهالة من الأعذار إن اندسَّت تحت غطائها ونامت لساعات طويلة. 
لم تكن اجتماعية، ولم يُشع عنها أنها خرجت من البيت إلا إلى المدرسة، حيث كانت تغلِّف جسدها بالعباءة النظامية وتترك أعصابها تشتعل وهي تتمسَّك بيد صديقتها المقربة.
وصديقتها المقربة هي واحدة من الطالبات المنعَّمات، أبوها لا يعرف عنها شيئا، وأمها لا تملك أن تأمرها أو تنهاها، فهي حُرَّة إلى درجة الملل، وقد جاءت إلى مدرسة القرية من المدينة، بعد أن تذوقت حلاوة التفلُّت وطعم الرجال. 
صارتا صديقتين مقربتين، وبالرغم من صعوبة التواصل في جو المدرسة، كانت كل واحدة منهما تكتفي من الأخرى بمصافحة بطيئة.
وعندما تعود إلى البيت، كانت تؤدي واجباتها، تلمع المرايا، وتغسل الثياب، وتحضر كأس الماء إلى غرفة إخوتها الرجال، ثم تنهدُّ متأوِّهة، لا يسليها إلا طيف صديقتها، فتستحضر وجهها الذي يشبه رخاما أبيض تنتشر عليه عروق بلون القرمز، ولا تطلب أكثر من هذه اللحظة. لاحظت أمها هذه الطمأنينة على وجهها وبدأت تشك في أمرها! 
وبعد الخروج من مدرسة الثانوية، كان الحرم الجامعي أوسع بكثير من نافذة الحرية الضيقة في البيت، فاستطاعت أن تلمس معصم صديقتها، فعضدها، فكتفها، ثم انتهت إلى عناقها عناقَ من يطلب الحياة بعد الموت، ولم تكن القبلة لزجة ومقرفة كما كانت تتصور، بل بالعكس، دافئة تشبه تبادل الأسرار الكبيرة. ولأنها كانت شديدة الحياء لم تكن تعي شيئا مما يحدث عندما تلتقي بصديقتها... ولولا لذة الأمن والشعور بالذات لما صدقت شيئا مما تصفه لها. 
كانت تستيقظ صباحا، وتملي على شفتيها تورُّد الصحو، ثم تورايهما بالبُرقع، وتستمع إلى صراخ والدها حتى ينتهي عند باب الجامعة، ثم تدخل باحثة عنها... تعود كل يوم بفم مرتاح، يجري فيه دم جديد وترتعش فيه سعادة.
لكن هذه الأوعية الدموية التي تفتّحت، انغلقت إلى الأبد. فما أكثر الرجال الذين تقدموا لخطبتها عندما اقترب تخرُّجها وصارت أنثى جميلة ومطيعة ومتعلمة.
وافق والدها على زواجها من أكثرهم مالا وأوسعهم بيتا وأقربهم إلى طبعه ورؤيته للحياة، ولم تملك أن ترفض. عرفت أن حياتها انتهت بهذه البداية، ولم يبق إلا أن تصلِّي على روحها للمرة الأخيرة معها...
بحثت عنها في كل الأمكنة، بحثت في كل الصور، في كل الذاكرة، ولما لم تجد لها أثرا غير زمجرة الرغبة في صدرها استسلمت لصوت الحياة الجديدة الغامضة، وخرجت من نفسها بلا رجعة، وأسلمت جسدها لشياطين زوجها. 

يتم التشغيل بواسطة Blogger.