19‏/12‏/2015

جنازةُ شتاء!




تمرُّ الطائرةُ الأولى، تتبعها جوقةٌ وقحةٌ من الطائرات التي تجلبُ البؤس أيًّا كانت وجهتها.
بالأمس مرّ رجلٌ مستلقٍ في صندوقٍ خشبيٍّ فقال البعضُ "لا رحمهُ الله" وفي نفس الوقتِ كان بجانبِ النّعشِ طفلةٌ تبكي.. لا شكّ أنها ابنته، وأخرى كانت تبحلقُ.. لا شكّ أنها زوجته، ربّما كانت تتساءل "لماذا عاد؟ والحربُ لم تنتهِ بعد؟".. وعلى بُعدِ رَجُلَيْنْ كان هناك شيخٌ أنيقٌ يضعُ على رأسه قبّعةً شتويّةً ويرتدي سترةً طويلةً من الجوخ الأسود، يرفعُ عينيه نحو الجموع ومن ثَمَّ يثبّتها عند نهاية الطّريق.. لا بدّ أنه والده.. ربما كان يقول "سيأتي ابني من هنا مرة أخرى حتّى ندخّن آخر سيجارة ونضحك على نكتةٍ بذيئة"..
وعلى طرف الصفّ الأول كانت تقفُ امرأةٌ جميلةٌ تضعُ على رأسها وشاحًا يظهرُ منه شعرٌ مموّجٌ بين الأشقر والأبيض.. تتأبّطُ حقيبةً صغيرةً وتنظرُ نحو الأسفل، لا شكّ أنها أمه.. ربما تقول "متى ينتهي المشي حتى نعود إلى البيت يا ولدي وأحضّر لك الملوخية؟" 
وقريبًا جدًّا يمرّ الرجل، يغرقُ صدرهُ بالدم.. على وجهه إشاراتٌ غريبةٌ ويدهُ مربوطة تجاه قلبه!
يصيرُ خفيفًا.. ومن دون أن يودّع أحدًا..من دون أن يلقي كلمةً أو يخبرنا بالحقيقة.. يعلو تاركًا هذا العالم السفليّ القذر الذي يطالبُ بعدم رحمته وينصّبُ نفسه إلهًا !



على الهامش : ما أخفّ الموت ! 

16‏/12‏/2015

رسالة إلى رجل عادي !




لقد ألهمتني رنّة الملعقة في كوب الشاي بأن أكتب لك هذه الرسالة. في الحقيقة لقد أعطتني الحجّة الكافية لأفتح معك حديثًا ولأقول لك بعد رشفتين ساخنتين أنني اشتقتُ إليك وأنّ هذا الرعب يتمكّنُ منّي وأنني لا أستطيع ردّه.
منذ دقيقة مرّت طائرةٌ فوق رأسي ومن دون أن أشعر غطّيت وجهي بيديّ ورحتُ أبكي كالأطفال الذين اكتشفوا أن ليس لديهم الوقت الكافي ليأكلوا الشوكولا.. رحتُ ألهثُ وراء صورك الكثيرة في ذاكرتي وأتشبّثٌ بها ورأيت الله في تلك اللحظة وهو يبتسمُ في وجهي دون أن يعاتبني على عدم اللجوء إليه! وبعد أن تعرقت ملامحي بما فيه الكفاية أزحت يديّ وأخذتُ نفسا عميقًا وكنتُ أحسبُ أنني صالحةٌ بما يكفي لأموت الآن وألتقي معك في الجنّة.. لكنني وقبل أن أفتح عينيّ سمعتُ جارنا يقول "يا ريم الحيوانه تعالي لهون!".. فعرفتُ أنني لم أبرح مكاني إذ ليس من العدل أن يلحقني جارنا حتى السماء وأن يموت في نفس اللحظة التي أموتُ فيها.. أليس كذلك؟!
أعرفُ أنك لن تجيب على سؤالي ولو قدِّر لك أن تتكلم لقلت لي "كفّي عن طرح أسئلتك التوكيدية الغبية" وسوف أضربك على رأسك قائلة "لن أفعل" وسوف نتجاكر حتّى يضيء الليل هذه الدرب الموحشة.. هل تخيّلت مرة ما معنى أن نكون نجمين وأن نكذّب العرافة المتخلفة التي قالت أن النجوم لا تلتقي في المدار؟ وأن الكواكب تدور ولكنها لا تتصادم؟ 
ما كان صوت ارتطامك بقلبي إذا؟ ماذا يجبُ أن أسمّي هذا الحدث الذي قلب حياتي وغير النظام الكونيّ الذي دفع أبي حياته ليزرعه في داخلي؟!
الآن ..
بعد أن هدأ الصوت وحلّ السكون.. صرتُ فارغةً تماما.. وحين أمشّط شعري لا تسقط من الفرشاة أية غيمة ولا يهرهر على يدي غبار سحري ملون.. لقد أخذتَ معك غواياتي.. طويتها كما تطوي أي ورقة عتيقة لا تحتاج إليها ومضيت!
إنني لا أتساءل إلى أين .. ولكنني كنتُ أطمع أن تقول لي "لماذا؟"! 


على الهامش : رشفة الشاي الأخيرة مٌرة جدّا مثل عينيك! 
وكم أحب _رغم كل شيء_ أن أتذوقها    

13‏/12‏/2015

خلدون (قصة قصيرة)



المصدر: berlin-artparasites
قطع عناقهما مبتسما وهو يقول: "مبارك عليكما، أرى أنكما خالدين بلا شك". وأردف: "آسف على الإزعاج". طأطأ رأسه مبتعدا ولم يتلفَّت. توقف، وأخذ يدوِّن في جهازه اللوحي، وكما توقع، شمَّ رائحة إنسان بدائي متعرق الجبين، قال الرجل: "نحن لم نقصد الإساءة، ونرجوا ألا تؤذينا"، وكان يبحث بعينيه عن شرطي. فقال: "لا تخافا مني". لكن الرجل لم يطمئن، ولحقت به الأنثى قائلة: "نحن سائحان، ما شأنك معنا؟". جال بعينيه البارزتين في وجهها الأبيض المحمر الذي يعكره بعض النمش، ثم قال بخشوع الكهنة: "لم أؤذكما إذ نجيتكما من الموت"، حينها التصقت الأنثى بالرجل وأحاطته بيديها، واصلَ: "أنتما لن تموتا أبدا"، وقاطعه أربعيني سمين مرَّ بالقرب: "أهلا يا سيد خلدون"، فهز رأسه.

ابتسم، رفع رجليه عن الأرض، نظرا بخوف إلى حشرة تائهة تعرج، رفع رأسه إليهما حزينا: "لم تتضرر، إصابة في الساق اليمنى، نجت من القتل الخطأ الذي ينهي حياة الآلاف كل يوم". سخرا منه وهمَّا بمغادرة المكان لولا نداؤه الصارخ. توقفا مذعورين، فقد ظنا أنه يوجه إلى جمجمتيهما مسدسا أو يضع إبهامه على رأس قنبلة. لكنه كان يمد يمينه قائلا بلطف: "هذا كل شيء".
تناول الرجل الجهاز اللوحي بحذر، قرأ: " لا بد أن يعلما أنهما لن يموتا..."، نظر إليه مندهشا، ثم أرخى ذراعه على كتفي الأنثى، وكانت الأنثى قد حركت يديها على الشاشة وعادت إلى أول سطر.

"إلى الأجيال القادمة، بعد قرابة عشرة آلاف سنة من الآن، نحن الآن في العام الهستيري 2016، وقد مضت أربعة قرون كاملة على بناء الجامع الأزرق. اسمي خلدون، والبعض ينعتني بخلدون العربي. أعيش في هذا الممر البارد بين المسجد والمتحف. قد لا يكون هذا الممر الجميل موجودا في زمنكم، قد لا تكون اسطنبول نفسها موجودة إلا في كتبكم، لكنني أؤكد لكم أنني لست بصدد كتابة أسطورة. أعيش هنا منذ عشر سنوات. لا أزيد على تتبع الناس والتفكير فيهم. إنني مقتنع بأن الحياة أقصر من أن نعيشها موزَّعين بين الأعمال الكثيرة. لذا فأنا أنام وآكل وأشرب النبيذ الأحمر الرقيق وأكتب. هذا يكفي. إنها مقدمتي المفضَّلة.

رأيتها تلتقط الصور، كانت أنثى يصعب تقدير عمرها، تعقص شعرها الأسود إلى الوراء ويتدلى من رقبتها شال سكَّري. اقتربتُ منها. قلت لها: "لا تظنيني مجنونا، إنني أريد أن أجعلك خالدة"، فقالت وكانت روحها اللغوية حلوة: "من أنت؟ أنا أحب المجانين". قلت: "أنا رجل شرقي". أغلقت عدسة الكاميرا متوجِّهة إليَّ باهتمام، واستطردت قليلا: "أهلا بك، أنا أيضا شرقية جئت من إيران، أنا حقا أريد أن أنال الخلود بأية طريقة". فرِحت عندما سمعتها تقول هذا ضاحكة وسألتها عن الطريقة التي تريد أن تخلد بها، قلت لها: "تخيلي أنك أميرة عابثة من أميرات ألف ليلة، ولديك خادم نحَّات بارع، وسألك أن تختاري شكلا تسافرين فيه عبر العصور، هل ستضحكين؟ أم ستبكين؟ هل سترتدين أحب فساتينك؟ أم ستتعرين؟ اختيارك هو الذي سيمليه الخادم البارع بلغة الرُّخام على كتب التاريخ وقلوب الناس القادمين". تأمَّلت وجهي برهبة، وقالت بلا تردد: "اقترب يا رجل الشرق المقدَّس.. سأخلد معك". وشبكت يسارها في يميني، ومشينا حتى اقتربنا من بوابة الجامع، اتجهنا يمينا، صامتين، ثم توقفنا عند جذع ضخم. سألتها: "هنا؟ أمام شواهد القبور؟" فلم تتكلم، وطوَّقتني بذراعيها الساخنتين، فتلذذت وكاد الجهاز اللوحي يتفتت بين أصابعي، وقلت لها متأوِّهًا: "يا حبيبتي.. يا شمسي.."، وقالت لي: "يا حبيبي.. يا لذيذي.. رائحتك موت.. أنا أشتهي الموت على شعر صدرك.. على رئتيك". وبقيت متمسكة بي وأنا في حالة بين الوعي وغياب الوعي، ساعة تبكي وساعة تغني بلغة لا أفهمها، ووجهها كان محمرًّا كأنه كدمة، وبينما هي تتسلقني وتشد ذراعيها حول رأسي، وجدتني أختنق وأعض شالها بأسناني، وهي تلهث وتلحس الجذع الجامد ورائي... ولا أدري كيف ارتخت وذبلت ثم تهاوت منتعشة وحرَّك النسيم فستانها المزهَّر عن فخذين كأنهما غيوم الصباح.
لمَّا هدأت أنفاسنا قالت بسعادة وكانت شفتاها تنزفان: "هكذا أريد أن أخلد، يرتعش جسدانا في أجساد ذريتنا بلا انتهاء"، والتقطت عشرات الصور لوجهي قائلة: "هذا وجهك الذي أحب أيها الشرقي، ملامح ملطخة بالخوف لأنها تدرك لذة الخلود وتخشى الضياع. لا تخف يا حبيبي، سأربِّيه على حب النساء". وانتبهتُ فإذ بتراب القبور يملأ أعصابي، وصوت الأذان يطردني إلى الجحيم.
الآن، ربما ينعم ولدنا في عامه التاسع، أو ربما تقاسي ابنتنا في مجتمع لا يحترم المرأة. منذ ذلك اليوم لم أدخل المسجد، ولم أجرؤ على الاقتراب منه، كأنما لُعنت ونزعت مني الروح. وكلما هممت بالعودة إلى بلادي، رسخت قدماي في عشب هذه الأرض القديمة. فقررت ألا أفارق هذا المكان، أستقبل سائحي الصيف وأحفظ رائحة عرقهم، وأستقبل سائحي الشتاء وأعرف ماذا يريدون. أنام أينما أحببت، وإذا بليت ملابسي أرسلت ذلك الرجل السمين ليشتري لي من البازار ما يشاء، فيوما يجلب لي قميصا مغربيا أبيض بقلنسوة، ويوما يختار جينزا وتيشيرتا دافئين سرعان ما أستبدلهما.
أيها البشر المتكبرون الموجودون بعد عشرة آلاف أو مائة ألف سنة، ثم عاهدت نفسي على تدوين كل مشهد حب تراه عيناي؛ لأنني آمنت بأن جسدي سيهلك وأن ذريتي هالكة لا محالة. فأنا إذن خالد في قصص العناق والدفء، أصوِّر لكم الأزواج المتعانقة المتأوِّهة همسًا، وأمنحهم ليلي ونهاري. وإنني منذ عرفت هذا المكان لم أعدم يوما مثيرا، فبشر هذا القرن لا يكلُّون من القبل والأنفاس، يتصافحون بشفاههم أكثر مما يتصافحون بأيديهم، يتعانقون خارجين من المسجد، ويتعانقون عائدين من المتحف.
أرى الآن رجلا طويلا أشقر الشعر صغير العينين يضمُّ أنثى، أظنهما يتحرجان مما يفعلان، إنهما ليسا صادقين، أكاد أجزم. ييمم هو شطر المتحف وتيمم هي شطر المسجد، آهٍ لو يعلمان أي حب ولد في هذا المكان! إنني لم أعد أستثار لرؤية هذه المشاهد، شأني كسائر الناس في بداية هذا القرن، نشتري بالأموال الكثيرة ما يشعل النار في جليدنا، ونطعن أعصابنا بالمسامير لتزورنا رعشة الجنس ثم تغادر بسرعة. أراهما ينشدَّان بقلق حول بعضهما، أسنانهما تتحرك كأحجار الرحى، يوشوشها بوعود الوفاء والالتزام، وتستجيب له وتحلم. أراهما حائرين لا يعرفان كيف يصلان إليكم. أراهما مسكينين يتنفسان الجراثيم ويكشطان الأرض بنعالهما الأنيقة. أراهما يتدفق الماء قريبا منهما ثم يخبو، فهو يشبه الدم الذي يملأ جسديهما فيحمرَّان ثم ينسحب فيبدوان شاحبين كشبحين. لا بد أن يعلما أنهما لن يموتا...".

رفعا رأسيهما، رأى فمين مضطربين ينفتحان ثم ينغلقان، ناوله الرجل الجهاز بصمتٍ متوتِّر، ودنت منه الأنثى ولعنته؛ لأنها ظنت أنه رجل من الجحيم.


يتم التشغيل بواسطة Blogger.