08‏/03‏/2017

أنبياء وفيروز وبعض العشب



"جبل الثلج"، ليونيد أفريموف
بداية، اخترت اللوحة في الأعلى للرسام الإسرائيلي ليونيد أفريموف. لم أقصدها تماما، لكنني كنت أبحث عن صورة تمثلني: صورة تضم بين أُطُرها جبلا وماء وبعض العشب والشمس.
نشأتُ في مكان لا هو بالجبل ولا هو بالبحر. أستطيع أن أنتسب إلى الصحراء معظم الوقت، فلي حاجبان كثيفان وبشرة سمراء وشعر أغبر. ولكنني أزعم أن أفكاري دائما تأتي من الجبل وتمردي دائما يأتي من البحر. هكذا نشأت، عندما يهطل المطر أكاد أعجنُ الجبال بيديّ، وعندما أسهر فوق سطح البيت تسهر معي قواقع وأسماك البحر الذي يبعد عن وجهي بضع كيلومترات.
إذا شئتم أن تسمعوا رأيا غير متحيِّز عن الجبل، فاسألوني. فأنا الوحيد الذي لن يجيبكم بلغة أهل الجبل التي تملؤها المحسنات البديعية، وأنا الوحيد الذي لن يجيبكم بلغة أهل البحر التي تملؤها الجهات والأشرعة. سأجيبكم بحِياد الأنبياء والزهَّاد المتصومعين فوق التلال.

يتعلم أبناء الجبل منذ أيامهم الأولى أن يعتمدوا على أنفسهم. ويوما بعد يوم، يكتشفون أن البوصلة التي يحتاجونها ليست هي التي يحتاجها أهل البحر. فالشرق يطل عليهم متأخرا والغرب يغادرهم مبكرا. أما الجنوب فموطن أحبابٍ، وأما الشمال فرحلات سفر. إن ما يحتاجه أهل الجبل هو بوصلة باتجاهين: من الأعلى للأسفل، ومن الأسفل للأعلى.
لا أعرف الكثير من أشعار الجبليين الذين يسكنون مدينتي. لكنني أعرف امرأة لديها القول الفصل في الجبال. إنها فيروز التي نادت ذات مرة "يا راعي القصب" فتنبَّهت لصوتها الحشرات التي تستوطن الهمالايا منذ دهور.

يستعمل أهل الجبل لغة ملأى بالمحسنات البديعية كما قلت. إنهم لا يهوون الطِّباق والجناس والمجاز بل يجدونها مفروضة على كلامهم بحكم البيئة. فالشمس في أوائل الصباح هي مجازُهم، والعشب النامي على الصخور هو طباقهم، ونسائم الصيف والشتاء هي جِناسهم. خذوا هذه الصورة التي يستخرجها الشاعر اللبناني طلال حيدر من رحِم بعلبك.. بعلبك الصخور والسهول الممتدة، يقول: "يا رايح صوب مشرِّق، شرِّق ما بو ربيعي" مناديًا ذلك الشبح الذي يعرفه أهل الجبل جيدا، شبحُ الرسائل والأخبار وحركة القوافل وتبدلات الطقس، يخبره بأن الشرق لا يخبئ أي ربيع، وأن الربيع الحقيقي بين ضلوعه "راحوا يرعوا غنمهن، والعشب فوق ضلوعي".
عندما حمل إليَّ صوتُ فيروز هذه الصورة "العشب فوق ضلوعي" انفجر بداخلي حنين إلى الكتابة. كيف يمكن أن ترعى الأغنام في الضلوع؟ يجب أن تكونوا جبليين لتفهموا. أما إن كنتم ضائعين مثلي في ما عدا الجبل، فالأفضل أن تغمضوا أجفانكم وتستفزُّوا تلك الصورة البديعة حتى تجد لها مكانا في أذهانكم.

حاولتُ مرة أن أتصفح اللغة العربية وأصنفها إلى ألفاظ جبلية وألفاظ غير جبلية. لأنني أؤمن بأن الجبل يأتي أولا قبل كل شيء. لم أصنف كل الألفاظ بالطبع. لكنني أحصيت مجموعة لا بأس بها من الكلمات. مجموعة إذا شئنا تجسيدها حق التجسيد فلن تحمل سوى رائحة الكاذي وملمس القمم الباردة. "ضياع" "خيال" "فوق" "عالٍ" "غياب" "أليف". هذه المفردات يمكن أن ينطق بها أي إنسان عربي في العالم. لكن هل سيدرك حقيقتها كما يدركها إنسان الجبل؟

أخيرا، بالنظر إلى لوحة أفريموف في الأعلى، أود أن ألفت انتباهكم إلى فكرة طرحتها قبل قليل. تأملوا الجهات في الللوحة. هل تحتاجون إلى بوصلة لتسيروا شرقا أو غربا أو جنوبا أو شمالا؟ أم أن كل ما ستحتاجونه هو النظر إلى الأعلى والأسفل؟ هذا ما قصدته. إن لأهالي الجبل جهاتهم وأسفارهم الخاصة. قد نقطع نحن البحر ونحتل الجُزر الوحشية لكن بشر الجبل قد يصعدون إلى سدرة المنتهى ويهبطون إلى أصل الجحيم. تأملوا نهاية الأغنية "نازل من صوبن مرسال، ومن عيني نزلوا دموعي".

يتم التشغيل بواسطة Blogger.