16‏/06‏/2016

غانية





تشعر بالأرق وفقدان الشهية تجاه رقائق البطاطا المفضّلة لديها، وقد رفضت حتّى الآن ثلاث دعوات إلى العشاء وطلبًا وحيدًا للحب، وتجاهلت إلحاح الليل عليها وإغراء فستانها الكمونيّ القصير، كما فقدت صديقتها إثر انفجار سيارة مفخخة أودى بما لا يقلّ عن عشرين سنة قادمة كانت تتمنى لو أنها تحياها معها بين زواريب الفنّ وقداسة كأس البرتقال والتنقّل البطيء على رقعة الشّطرنج في ذلك الدكان النائي الذي يبيع الزجاج المزخرف، وتكتسي جدارنه بلوحات مغمورة مرسومة بالفحم لإناث متمرّدات؛ بعضهن عاريات والبعض الآخر jلوّحن من بعيد لأشياء غير واضحة.
قبل ساعتين ونصف -أي عندما اكتشفت الوقت- تعرّضت للإهانة التي يُسفر عنها الانتظار، وقالت بمنتهى الوحشيّة: "يا لفداحة الذوبان في سِوانا" وراحت تبكي. إنها أنثى جميلة -وإن كنتم لا تعلمون- فإن الأنثى الجميلة حين تبكي آسفة وقد تملّكها شعور بالوحشة والظلم، فإنها لن تنسى ولن تطيب ذاكرتها من حدة التخلي الذي مورِس عليها، ولن تغفر -لنفسها أولا- ويلات الحرب العاطفية التي خاضتها بحيث فقدت في كل مرة توقًا وجنونًا واعتذرت عن حماقاتها واعتقدت -لفرط رقتها- أن عليها أن تكون قوية طوال الوقت حتّى تحافظ على "حسن"، ثم اكتشفت أن صوتها ظلّ غارقًا في مناجاته الوهمية، وأن من تثق به لن يقاتل من أجلها أبدًا. "الحبّ ليس مشروطًا؟" تعاود ضرب ساقيها وتبكي. تحاول ببكائها أن ترمم ثقوب قلبها. أن تتعب حتّى تغفو. لكنها تفشل، تصحو أكثر، تخشخشُ بأساورها لافتةً انتباه الرفوف والنوافذ والحشرات التي تتمشى تحت السرير.

إنها "غانية" التي تتفحص الآن ملمس الغطاء القطني، وتشبكُ يديها خلف رأسها محاولة أن تتلاشى بهيئتها القديمة، وأن تخلق أفكار جديدة تعينها على بصق هذا الألم الشديد مدركةً أنّ تصفيق الجميع لها خارج هذه الغرفة ليس إلا وهمًا أو شيئًا مؤقّتًا يرضيهم ويقدم لهم المتعة بينما يسحبُ منها في كلّ مرة قدْرًا من البهجة والعفوية. تدركُ أن ثمن حريتها سيكون غربة، وأن ثمن دفاعها عن وجهها سيكون يدًا أعلى من يد قاتلها، وأن ضريبة نومها ستكون حياةً ماضية ستجاهد ألا تأخذ منها أيّ وجه أو قبلة أو محاولة انتحار.

تبدأ بدندنة الموسيقى التي كان والدها يستخدمها لردّ الحرب وتحمّلِ فداحة الأصوات التي تُسقِطُ في كلَ مرة ضحية وتهدمُ بيتًا وتعطي الآخرين سببًا للرحيل. تدندن وهي تدرك أن هذه الموسيقى لن تردّ شيئًا في النهاية وأن الضحية ستسقط وأن البيت سيصير بخارًا وأن الأخرين سيرحلون، إلا أن عزاءها كان موجهًا إلى نفسها -أولا-. عادةً بيضاء كانت تواظب عليها كلما اشتدّ أزيز الرصاص واهتزّ سريرها إثر انفجار قريب ولمحت أضواء سيارات الإسعاف الحمراء التي ستحمل الموتى وسوف تجاهد كي لا يضيع الأحياء على الطريق.

هدأت الأصوات الآن. قالت لها صديقتها على "facebook" أن جارتهم فقدت زوجها والأخرى تعرض إبنها لجروح بالغة وأن الأرقام تزداد بحيثُ تجلسُ والدتها مدهوشة وهي تقول لزوجها الراحل: "تعى يا رجال، تعى شوف شو عملنا بحالنا يا حبيبي". تختم صديقتها الرسالة بوجه مقلوب وآخر حزين مقحمة في النهاية شفاه حمراء غليظة.

مجدّدًا تشعر غانية بالوقت. الواحدة والنصف ليلًا. تمدّ رجليها على الأرض وترسم بيدها اليسرى تلالًا وأشكالا مبهمة. تغنّي أغنية كلاسيكية تستذكر فيها كيف غرق "جاك" في قلب المحيط. تتحول الدنيا في نظرها إلى سفينة ضخمة مصابة بالعطب. ترى الناس يتساقطون ويصيرون أسماكًا. البعض يطفو على السّطح كما تطفو غيمة بليدة. تقول: "كم من الجميل أن يموت الناس بهذه الرومانسية". تفترض أنها أيضًا ستصطدم بكلّ القضبان الحديدية، أو قد تكون أحد العازفات لشخص قرر تقبيل حبيبته في اللحظة الأخيرة. وبعدأن يعمّ الهلع أخيرًا تغني بصوت أكثر ارتفاعًا وتقول لهم: "الدنيا تبدو سيئة حين نكون سيئين، ومخيفة حين نكون خائفين". يرمي أحدهم حذاءه فوق رأسها لكنها تعتبر هذا نوعًا مشرفًا من التصفيق. بعد ذلك تقوم. تسوّي طرف فستانها الطويل، تربط شريط خصرها بإحكام. تحرك رقبتها قليلًا وبعد ذلك تغمض عينيها وتنزلق. تشعر بنعومة السطح الخشبي. تتألم قليلًا في البداية لكن الجثة التي بجانبها تقول: "go on". تبتسم، تضحك، تقهقه وبعد ذلك تحدث صوت الارتطام/ الانفجار ويطفو ذيلُ فستانها كرزًا خالصًا. تغرق. تنزل نحو القاع وتلتقي ب "جاك". يبتسم فتبتسم له في المقابل ويبتسمُ كل الموتى الذين غرقت بهم سفينة الوطن ولم يجدوا من ينقذهم.

هكذا قالت غانية : نموت ونحن نحاول أن نحكي قصة أو نغني...

2 التعليقات:

٣ دعوات إلى العشاء وواحد للحب

أظن أن مقدارًا كبيرًا من المشكلة يتضح من هذه الأرقام (المعادلة؟)

غذاؤها الروحي منقوص بثلاثة أمثال -على الأقل- عن الجسدي

والباقي كله نتاج للاختلال، أظن!

الأرقام في الحقيقة أكبر من هذا لكنني حاولت قياس الحرمان بشكل متفائل. متفائل؟ حسنًا، لستُ متأكدة من هذا.
لكنّ غانية فتاة غير متوازنة تمامًا، لها ذات مصير وطنها، الغرق في المأساة مجازيا أو حقيقة ..

وبالطبع فإن غذاءها الروحي منقوص جدا . وهنا المصيبة .

شكرًا جزيلًا لك ..

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.