18‏/06‏/2016

مي




فقدت والدها حين استقرّ "صاروخ" في غرفته حيث اعتاد أن يجلس ليتابع نشرة الأخبار ويشتم قليلًا. لم تكن في المنزل حينها، فقد كانت تعمل في منطقة بعيدة بعض الشيء وتتحمل عبء الحواجز والخوف المتربّص بها حتّى تؤمّن له ما يحتاج. حين عادت لم تستوعب في البداية أنها تقف أمام منزلها. فقدت إيمانها بكلّ ما يمكن أن يقدّم لها العون في تلك اللحظة، حتى أنها نسيت الأدعية والصلاة والعبارات التي قالتها في الشهر الفائت لصديقتها التي فقدت عائلتها أيضًا. كان العمّ جلال الذي يحمل ديون الحيّ بابتسامة يضع يده على كتفها ويقول بمرارة: "الحرب اختارت والدك اليوم يا مي ". تحول خضار عينيها إلى خريف بارد تمامًا، وقبضت على علبة السجائر التي كانت تحملها، ثم هرستها تحت حذائها القديم، ولم تبك. مرّ أسبوع وانتهى العزاء ولم تبك مي. لم تقل شيئًا. كانت تكتفي بالبحلقة في نقطة ما وتسمع من يقول لها بين الحين والآخر: "لك الصبر. لك الأجر. الله لن ينساك". وكان العم جلال دائما يضع يده على كتفها ويقول: "إبكي يا بنتي. ابكي. ما بيسوى هيك". عندما نفذ صبره هزها بقوة ثم صفعها.
ساد الصمت فترة. زمّ فم مي المتشقق. احمرّ وجهها قليلًا وهطلت دمعة كبيرة. تدحرجت ثم أحدثت صوت ارتطامٍ مجلجل في داخلها، وهكذا انفرط العقد المتين في النهاية. أرخت مي رأسها على يديها وبدأت بالنحيب. كان نحيبها يشبه خيمة لجوء بالية تصفر فيها الريح. صراخَ طفل ضلعت سيارته الحمراء الصغيرة تحت الأنقاض. هدير الطائرة قبل أن تلقي بحملها اللعين، وصوت المذيع وهو يقول: "وردنا الآن". لم يكن يخطر ببالها أن يكون والدها الفنان الأعزل المجنون هو الشريط الأحمر الذي سيمرّ على شاشة الدمار ثم يهوي إلى الأبد. ظلت تبكي طوال الليل حتّى صارت خوخةً نضجة ومهترئة. وكلما سمعت صوت طائرة تمر فوق رأسها كانت تقف وسط الغرفة. ترفع رأسها نحو الأعلى وتصرخ!

مضى شهر الآن. هاهي مي تخرج من منزل العم جلال وهي تدري أن العالم سيكون مختلفًا وهي تنظر إليه بعين اليتم والخوف. ومهما لوحت له بيديها فإنه لن يكترث أبدًا. الشمس حادّة الملامح فالصيف قد بدأ منذ من الأمس بالتنفس القوي والمقرف. هاهي تقطع المسافة ذاتها نحو العمل.
"صباح الخير"
"خير؟ أي خير هذا؟"
"لقد تعرضت لظرف قاهر جدا. تأخرت بسبب فقدان أبي بطريقة مأساوية. أنت تعرف ما هو الوضع."
"الله يرحمو لأبوك. انضم للقافلة"
"سأعمل وقتًا إضافيا لأعوض غيابي"
غمغم صاحب "الكرش" الكبير. مدّ يده نحو الصندوق ليعطيها بعض المال وهو يخبرها أنه وجد فتاة بديلة. لم تنتظر مي. أدرات ظهرها ومشت.


وهي تعبر الزقاقات تعرقت بما يكفي لتبكي جيدا .ترى أجزاء منها تغادرها وتمشي على مهل إلى مصبٍّ بعيد. لم تكن قادرة -رغم كبريائها- أن تبدع أي وسيلة للدفاع. واحدةً من بين الكثيرين الذين التهمتهم الحرب، ومن بينا لفقراء الذين يُطالَبون دومًا بالدفاع عن البلاد في مثل هذه المرحلة بينما ينعم الأغنياء بخير الأرض في كلّ المراحل، ويمشون على الجسور البشرية حتى يصلوا إلى الضفة الأخرى. وهناك يبدؤون سرد مسيرة نضالهم الشاقة وكيف أنهم جاهدا لتعيش الاشتراكية ويسود العدل وينتهي الفقر. هي ذاتها سمعت الكثير من هذه الوعود التي قُطعت لتعوضهم عن كل ما قدموا قسرًا وجبرًا. لم يكن يعنيها أن يقال عنها "بطلة". كل ما كانت تريده هو أن تنجو بما تبقى من أحلامها. أن تهرب إلى مكان آخر ستكون فيه واثقة من الحصير الذي تنام عليه وأن أحدًا لن يسحبه من تحتها. ستملك حينها قرار الدفاع عنه وسوف تقاتل حتى النهاية فهي تدرك أكثر من أي شخص آخر صعوبة ألا ينتمي الإنسان إلى وطن وصعوبة ألا يشقى في الحنين إليه.



 على الهامش: شاركي بالغناء والسخرية. افتعلي أي بهجة عابرة وازرعي مكان الساق المبتورة غصن برتقال. وقولي للأطفال الذين يتسلقون أكتاف الجداران ألا يشتروا إلا السكاكر الملونة.



2 التعليقات:

"نحيبها يشبه خيمة لجوء بالية تصفر فيها الريح"

:(

الموت عكس الحياة. هذا هو ببساطة مدى قوته وزخمه كمفهوم

عندما يكون الموت بهذا مظهر فإن معكوسه على مفهوم الحياة يصبه أعنف وأشد، أكثر ثقلًا وإلحاحية!

كمن مي هناك الآن. وأيضًا كمن كفل أصغر وأضعف منها في عالمنا وعلى كوكبنا
:(

قراءة متعبة وأشكرك

أعتقد أن الموت والحياة يسيران جنبًا إلى جنب. ما يميزهما هو فرق بسيط بالتوقيت.
على مي الآن أن توسّع الفارق وتنجو قدر استطاعتها .
المهمة صعبة . أنا أعترف. لكنها تستحق.

أشكرك أيضًا على حضورك
نهارًا سعيدًا.

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.