17‏/06‏/2016

وليد عبيد في لوحة "المُهاجِر"



"المُهاجر" - للفنان المصري وليد عبيد

ماذا لو لم يكن عنوان هذه اللوحة "المهاجر"؟
كنا سنرى هذا الرجل الطريح على نعومة الرمل عاشقا مُعذَّبا أو ربما رُفاتَ جسدٍ ميت. لكن لا. هذه اللوحة رُسِمت للمهاجر، ولا تعني غير الهجرة.

الجو غائم، هناك سفينة تغادر، ومن بعيدٍ تُطل مجموعة من الأشجار بنوع من الحياة. وما عدا هذه التفاصيل، ليس ثمة حياة أوضح من التي تتدفق من هذين الجسدين. وإذا لم يكن في المكان غيرُهما، فإن أحدهما يهاجرُ إلى الآخر، أحدهما يمارس الهجرة إلى أحدِهِما.

عندما نظرت إلى اللوحة للمرة الأولى لم يدهشني فيها إلا تموضُع الجسدين والرمزية التي يؤديها كل عضو من أعضائهما. شعرت بأنني أشاهدُ لوحة أجساد، فتنة أجساد.. وغربة أجساد. وأدركت بسرعة أن الرجل هنا هو المُهاجر إلى المرأة، فألحَّت بي أسئلة كثيرة... لِمَ الهجرة؟ من أين؟ إلى أين؟ وفكرت قليلا: لعلهما آدم وحواء هبطا قبل لحظات من الجنة؟ ثم غيرت رأيي.

الرجل يطرحُ جسده موازيا للمرأة، ساقاه تبتعدان عنها وتتجهان إلى سفينته البعيدة ورأسه يدنو منها، إنه يشبه بوصلة تحدد حنينه إلى المكان الذي طُرِد منه. أول انطباع صعد إلى ذهني هو أنه في حالة سيئة، ومهما بدا الجزء الأسفل منه أنيقا ونظيفا ومرتخيا فإن أعلاه مشوَّه ويكاد يفقد أي دليل على الحياة. إنه بالغُ الضعف والهوان، إنه مسكين.. مسكين جدا. فهو رمزُ الحاجة واللجوء والعَدَم، رمز التأثُّر والتقليد والاتِّكال.

جسد الأنثى يعرض لنا الجانب الآخر من اللوحة، الجانب الحي، فهو يستلقي في أرض الحياة، في جهة الأشجار والوطن. قد يكون عاريا، أو هو يجب أن يكون عاريا، لكنه لا يبدو كذلك، على الأقل بالنسبة للرجل الذي يجاوره تماما، ويوشك يلمسه. المرأة تفتح كتابا لكنها لا تقرأه، فعيناها تتوجهان نحونا وتغرينا بالهجرة، تمتدان نحونا وتريدانِنَا.  

إذا كان في اللوحة نوعٌ من الألم أو القسوة أو دقةِ تصوير الألم والقسوة فهو ما ترمز إليه الأطراف. ذراعا الرجل أولُ ما يستحق الشفقة، فهما عاجزتان ذليلتان غائبتان، نستطيع أن نرى فيهما كل علامات التسوُّل والضراعة. أما يدا الأنثى فتملكان ثروة تعطيها قيمةً ودورا في لعبة الوجود. ولتتأملوا أين تتموضع ساقاها، واحدة على الكرسي، وواحدة على الأرض.

شاء الفنان أن يكون لون جسد الأنثى متماهيا مع لون الرمل فكأنهما قطعة واحدة، وشاء بطريقة مدهشة أن يعطي الأنثى في اللوحة كل معاني السُّلطة والتملُّك، فهي توزع جسدها لتملك كل شيء، حتى نحن. ساقها اليمنى تملكُ الكرسي، وجزء من ساقها اليسرى يملك الرمل، ويداها تملك الفكر، وعيناها تملكنا.

أما الرجل فقدماه لم تزالا مبللتين من السفر وينقسم جسده بين المكان الذي جاء منه والمكان الذي جاء إليه، وتغزو جسده الأسمر مسافات بيضاء؛ إنها ليست مرضا جلديا كما قد نظن، بل هي عدوى الوطن الآخر الذي يمثله جسد الأنثى، لقد انتقلت إليه من جسد الأنثى المجاورة. لكنه لم يزل منتميا إلى مكانه الأول، ولم يزل يسأل وطنه الثاني أن يتقبَّله، لاحظوا كيف تلامس يده اليسرى المُنكَّسة قطعة القماش البيضاء التي تستلقي عليها، ولاحظوا كيف تتوجه اليد اليمنى إلى السماء.

في اللوحة الكثير من اللامبالاة والتهميش. فلا الرجل يأبه بجمال جسد الأنثى ونعيمها، ولا الأنثى تدرك أن رجلا ما يطلبُ نعيمها بكامل الذُّل والاحتياج. لا غريزة هنا، لا شهوة، لا حب، لا جنس. وهذه الأمور لم تفُت الفنان بالتأكيد، فهو لم يرِدها لوحة لعاشقين أو لمغتربين، بل أرادها لمُهاجِر ومدينة. والمدن العظيمة لا يفتنها المهاجرون إليها، لا تراقصهم أو تغني لهم، إنها تستقبلهم فحسب وتسكب فيهم أفكارها وألوانها. 

لكن هناك شيئا آخر، إذا تعمَّقنا أكثر في وجه الأنثى فلن نرى إلا وجها عربيا، عربيا مصريا، عربيا مصريا بمنتهى العروبة والتعرِّي، فهل يمكن أن يهاجر العربي المصري إلى العربي المصري؟ لعل هذا من الألغاز التي لم يُفضِّل وليد عبيد الكشف عنها، وكم في اللوحات العظيمة من ألغاز! 



4 التعليقات:

قرأتها امس وقرأتها قبل قليل أيضًا
ومثل البارحة لا توجد عندي كلمات تفي كتعليق

أظنني مراوحًا بين أفكار عن قراءتك للوحة ومدى موافقتي/اختلافي على بعض ملامح تلك القراءة وعن انعكاسات أفكار التدوينة على واقع العربي المصري خصوصاً والعربي الحالي عموماً والإنسان بشكل أعم وأعمّ..ذكرًا و (أو؟؟) أنثى

قراءة رائعة للوحة معبّرة.
السؤال: ترى كم من هذه الأفكار والمعاني طافت بذهن الفنّان عندما كان يرسم اللوحة؟
هنا بالذات يكمن سحر الفنّ إذ يترك للمتلقّي مساحات للتخيّل واستبطان المعاني والدلالات المختلفة.
دمت مبدعا يا صديقي. ورمضانك كريم.
بروميثيوس

يكفي أنك قرأتها مرتين يا هيثم
وبالتأكيد، لوحات كهذه تستطيع بقوة أن تغري العقلية العربية بتقبل هذا النوع من التصوير والرمزية
أشكرك

كتبت التفاصيل مبتسما وأنا أتصور الفنان يقول: هذا لم يخطر لي على بال :)
لكن كما قلت إنها قوة الفن وسحره

أشكرك، ورمضانك جميل

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.