24‏/08‏/2015

شادي على الثلج



لا أحترم الفن الذي لا يعبر إلا عن زمنه، الأغنية التي انتهت مهمتها مع انتهاء تاريخ غنائها لا تستهويني ولا تستحق وقتي، الفن الحقيقي هو الذي يضمن مكانه في الخلود، وهو الذي يعبر عن زمنه وعن كل الأزمنة. نحن اليوم مع فنانين حقيقيين، لم يزالوا يطلون من نوافذنا كل الوقت، يشاركوننا ورق أيلول الأصفر، وبدايات نيسان، وسعة البحر والسماء، وينشدون معنا للإنسان وللأرض وللحياة. 
ربما جاز لي أحيانا أن أصف نفسي بالمتبلِّد، من أية ناحية؟ من ناحية الأحداث السياسية والحروب التي تطحن العالم، فلم أعد أهتم بمن غلب من، أو في الواقع لم أعد أدري، ولدي القدرة على إلصاق الحاضر بالماضي من دون أن يبدو شق بينهما في المنتصف، فأدركهما وحدةً متكاملة، كأن الحاضر هو اليوم، والماضي هو الأمس القريب. وأنا إذ أقرأ عن الحرب في كل العصور، وأشاهد رتابة العنف، والقدرة على ابتكار أساليب إيلام جديدة وفظيعة، تتكرر بالرغم من الحضارات والعلوم والرقي الفكري في الجانب الآخر من الحياة، لا أنتهي إلا إلى استنتاج واحد، وهو أن العدوانية أصيلة في هذا الإنسان، ولا مجال لإصلاحها. صحيح أن بعض مشاكل الإنسان تراجعت وباتت تراثا، لكنه بقي -هذا الإنسان- محاربا من أول يوم، وقد يبقى إلى آخر يوم له. وأنا إذ أنظر إلى عالمنا الحاضر، أرى "صغارا" أنانيين يتناحرون حول بئر نفط، أو قطعة أرض، أو حول مبدأ نظري هش، وهذه الرؤية مفرطة في البساطة والسطحية، لكنها تفسر الواقع، وهذا ما يهم. 

السيدة فيروز، والأخوان رحباني قدموا الكثير من الفن الحقيقي، الذي يرجِّع صوته في قلوبنا وصدورنا، ويتعمق في دقائقنا، وعندما نتكلم عن الحرب، نجد أنهم اهتموا بموضوعها اهتماما مرهِقا، وهذا -كما يبدو لي- هو جوهر رسالتهم الفنية: الإنسان ومشكلاته. وما من أحد منكم عرف الفن الرحباني ولم يعش أيام الحرب، بفراقها وغربتها وخسائرها وانتصاراتها وهزائمها وأناشيدها وأحاديثها وشهدائها... 


أغنية "شادي" هي واحدة من الأغنيات الجميلة والمهمة من زوايا مختلفة، ولن نكون مرتبين جدا لنفصل نقاط أهميتها، لكننا سنبعثر خواطرنا بين ذراعيها الوسيعتين. 
في البدء الجميل، تعلو الموسيقى بالتدريج حتى تستقر في الأعلى، ثم تبدأ الهبوط الخفيف كريشة خلَّفها طائر يصارع فريسة في الجو، لست متأكدا من اسم الآلة الموسيقية التي تنجز كل هذه المهمة، لكنني بعد محاولات لتمييزها، أتوقع أنها ذبذبة طويلة على أوتار كمان، مع ضرب لطيف على أصابع بيانو. يتكرر هذا العلو الفريد في أغاني السيدة، وهو تعبير موسيقي يلازم أغانيها الأكثر رقة والأشد حنينا وحسرة ورجاءً، بإمكانكم أن تعثروا عليه في "يا طير"
ستعلون جدا مع هذا القلق الصاعد، ثم ستهدأ أنفاسكم قليلا بينما يدنو من القاع ثم يستقر، لكن صوت السيدة لا يتأخر كثيرا، ويجيء مفعما بقضية مهمة تحاول أن تقدم لها بكل طفولة بـ "من زمان، أنا وصغيرة". وتظن هي أن هذا التقديم يكفي لشرح قضيتها التي تبدو شجيَّة بلا أدنى شك.
تتغير طبقة صوتها قليلا، كأنها تقفز من مدة زمنية إلى أخرى بعيدة، وهو القفز من تعبير الشجو والحنين إلى تعبير الحسرة "كان في صبي"، ولاحظوا كيف تنطق كلمة "كان" فتتكون في داخلنا صورة جد حزينة لهذه المدة الزمنية التي "كانت" حتى قبل أن نعرف ما الذي كان، ومن هو هذا الصبي. 

"كان في صبي
يجي من الاحراش
إلعب أنا وياه"
وتميل ميلًا مرهِقا في نهاية "وياه" فتشعرون بأنها تنكس رأسها وتوشك أن تبكي. إذن، هذه هي القضية؟ صبية تسترجع ذكريات صبي كان يخرج لها من بين الأغصان المتشابكة، ويلعب معها؟ كلا. بل ثمة قضية أهم من صغيرين يلعبان، إن هذا الصبي "كان اسمه شادي". وما الذي يزيده شادي أو ينقصه؟ إن اسمه شادي وانتهى الأمر. "شادي" هو أمة من الأطفال الذين شردتهم الحرب.. وهذا الصوت الحزين الذي يسترجع "شادي" في كل وقت هو أمة من الصبايا اللاتي اغتصبت أحلامهن الحرب أيضا. 
"كان اسمه شادي" ويوشك صوت فيروز أن ينطفئ عند نهاية هذا المقطع. 

ثم تختلج آلات موسيقية مختلفة، تشتبك ببعضها كخيوط كروموسومات تحت المجهر، تشتبك كعواطف قديمة هاجت فجأة بلا سبب، تشتبك كأفكار غير مرتبطة في ذهن أحدنا ثم تنتهي بفكرة واحدة غريبة. 
"أنا وشادي،
غنينا سوا
لعبنا على التلج
ركضنا بالهوا".
هذه هي مجموعة الذكريات المشتتة في ذاكرة امرأة كبرت في الحرب، "الغناء" مع طفل، و"اللعب على الثلج"، و"الركض" البريء في كل مكان. وأيضا:
"كتبنا ع الاحجار قصص صغار
ولوَّحنا الهوى".  
ولعلي أبالغ في التحليل عندما أزعم أن ترتيب الأحداث في الأغنية هو ترتيب دقيق للمراحل العمرية التي عاشها هذا الصوت مع شادي، فابتدآ يجربان قدرتهما على الغناء، ثم اللعب على الثلج، ثم الخطوات الأولى والركض، ثم الكتابة وتأليف القصص، ثم معاناة الحب (الهوى). فهذا الحنين هو حنين إلى حياة، لا إلى جزء صغير من تفاصيلها، وهو حنين إلى عمر، لا إلى سنة واحدة من سنواته. إلى أي حد بلغ هذان العاشقان البريئان من السعادة ونعيم القرب؟
لا تسمح  السيدة لأي فاصل موسيقي بين ذكرياتها الحسنة والأخرى السيئة، فتأخذ أنفاسها قليلا، وتواصل:
"ويوم من الإيام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بهالدني
وصار القتال يقرِّب ع التلال
والدني دني".
فكأنها لا تشبع من سرد بقية القصة مع شادي. الذي يجعلني أبدو كالتمثال جامدا أمام لوحة مفاتيحي هو أن صوت السيدة بطفولته وبراءته يقنعكم بأنها صاحبة القصة، إنها حقا طاقة فنية مدهشة، تستمع إلى الأغنية التي لا تعرف فيها إلا علمًا واحدا هو "شادي"، فلا تكف عن تصوير العلَم الثاني في "فيروز"، ولا تستطيع المواصلة إلا بهذه القناعة القوية. 

تقص لنا المرأة (التي لم تزل طفلة) ما حدث، فتقول أن الدنيا "ولعت" أي احترقت، ثم -بكل أسى- تذكر الخصوم الذين هم "الناس" و"الناس"! وما حصل بينهم من قتال تعدى كل الحدود حتى وصل إلى التلال الهادئة حيث شادي والأطفال.. وتصف سبب حروبهم وكل مشاكلهم مشفقةً عليهم: "والدني دني"، تشرح لهم أن الدنيا التي يتحاربون من أجلها هي الدنيا التي لا تستحق.

ترتاح السيدة الآن، وتظهر الموسيقى التي تعبر عن التناوُش والكر والفر (لاحظوا هذا جيدا)، ثم تعود بصوت منهزم جريح:
"وعلقت ع اطراف الوادي
شادي ركض يتفرَّج" 
شادي البريء أراد أن يعرف ما الذي يحدث، إن عالمه مليء بالورود والأحلام والشتاء، لم يظن أن في الجانب الآخر من الوادي يعترك الناس الذين كانوا مثله يوما ما. لكن خوف الأنثى الفطري في هذه الأحوال نبهها إلى أن شادي قد لا يعود إليها، فخافت، وراحت تناديه "وينك رايح يا شادي؟". لكن هذا النداء عاد خائبا، فشادي كان قد ابتعد مشدوها بأصوات الرصاص والمدافع التي ربما ظنها ألعابا نارية. 

"إنده له ما يسمعني...
ويبعد، يبعد بالوادي". 
تخرجها السيدة فيروز بروعة، فالطريقة التي تغني بها هذا الحدث هي الطريقة الأنسب، عندما ترفع الصبية الصغيرة كتفيها متعجبة من عصيان صديقها الصبي الجريء، طريقة هي خليط من التعجُّب والضياع والحزن؛ لأن شادي كان يبتعد عنها أمام عينيها إلى حيث لن تجده مرة أخرى. 

"ومن يومتها،
ما عدت شفته
ضاع شادي".
وتفصل بين الجملة والأخرى بوقفة قصيرة، كأنها تسمح لبعض الأمل بأن يداعب خيالها بعودة حبيبها. "من يومتها"... "ما عدت شفته"... "ضاع شادي". تنهي القصة بالصياح الذي بدأ به صوت الكمان المتذبذب.

هذا ما فعلته الحرب بالأطفال الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والسوريين والمصريين، والأطفال من كل الأمكنة التي عششت فيها الحرب زمنا طويلا، هم التعب الذي لم يثمر، وأمنيات الليالي التي لم تكتمل، ونظرات الأمهات الناقصة إلى الحياة، وأصلاب الآباء الممزقة. الآن وأنا أكتب، أتصور طفلا "يبعد يبعد بالوادي"، وأتصور طفلة تنادي ولا يسمعها أحد. الحرب ألغت كل احتمالات الأمل فينا، فتبلُّدنا الذي شغلنها عن مناقشة الأخبار وعدد الوفيات لم يشغلنا عن هذه الصور المؤلمة جدا. 

ولم تزل الحرب تفرق الأحباب والأصدقاء:
"والتلج إجا
وراح التلج".
هذا الذي لعبوا به صغارا حالمين، صار يجيء ويعود في أجواء رتيبة وخائفة ومتوجِّسة ملأى بالدم والسواد.

"عشرين مرة
إجا وراح التلج".
 عشرون عاما عمر هذا الأسى الكامن في صدر الطفلة، وعشرون عاما عمر هذا الضياع الذي لمَّ شادي وأخفاه، وعشرون عاما عمر هذه القضية وأكثر. 

"وأنا صرت إكبر
وشادي بعدُه صغيَّر
عم يلعب ع التلج". 
مات شادي؟ لم يمت شادي. فشادي هو كل الأطفال الذين يذهبون كل يوم بوجودهم الأبيض، ويعودون ليذهبوا مبكِّرين إلى الثلج. 

هذا هو الفن الحقيقي الذي لا تقيده الظروف والحرب، الذي يصف لنا بلغة صادقة حجم الحنين في حياة طفلين افترقا بسبب جشع الكبار، الذي لا يهمه أن ينتمي إلى مدرسة أو يجدد مذهبا، بل يهمه أن ينقل الواقع الذي يبدو أنه يصرُّ على أن يكون واقعا خالدا في تاريخ الإنسان. 


4 التعليقات:

وصفك للأغنية أكثر من رائع! استمتعت وأنا أقرأ

غير معرف، شكرا لك ويسعدني أنك استمتعت.

تحليلك رااائع . شكرا لك كثييرا. أتمنى لو تحلل باقى أغانى فيروز . وبالأخص أغنية كان الزمان

أشكرك عزيزي عمار، سأسمع الأغنية وأتمنى أن أجد وقتا لتحليلها.

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.