29‏/07‏/2015

رواية شجرة اللبلاب (قراءة سريعة)





يدهشك هذا العاشق (حسني) وهو يعيش في الطابق الذي يعلو طابق معشوقته (زينب)، يمشي ليلا ونهارا في حيرة وفي اضطراب، تتقاذفه الأحداث التي رآها في حياته، من وفاة أمه، وقسوة أبيه، وخيانة زوجة أبيه، وفراق أخته، وغربته ووحدته في المدينة بعد عذابه وطفولته البائسة في الريف. يدهشك وهو يحارب نفسه، يحب ويكره، يقدِّس الأنثى تقديسا، حتى إذا تذكر مشاهد الإناث الخائنات اللاتي رآهن في حياته، احتقرها وحاول ألا يفكر فيها، فهو محب وكاره، مقدِّس ومحتقِر، هائم لا يدري أزينب ككل الإناث أم أنها تختلف عنهن بوفائها وطهارتها كما تختلف بجمالها ونعومتها؟
فتراه وإذا به يمد خيوطا عبر نافذته إلى نافذتها، ثم يقوم بهزِّها، وينتظر، فتلاحظ اهتزاز الخيوط، وتعرف أن صاحبها قد أرَّقه الحنين، ودعاه إليها، فتقوم هي الأخرى بهزِّ الخيوط، فيعرف أن صاحبته قد لعبت بها الأفكار، فسئمت من القراءة وسئمت من انتظار النوم، فينهض إلى النافذة، وينكس رأسه منتظرا ظهور وجهها في الظلام، تحفُّه أوراق شجرة اللبلاب، ولا يبدو منه إلا بياضه الذي يضيء المساء ويزيد الحنين اشتعالا.
يتحدثان عما فعلاه في يومهما، تخبره بأنها كانت تعد خطواته بينما يمشي في غرفته، وتشكو إليه قلقها عليه، إذ كان يمشي كثيرا، فيخبرها بأشياء كثيرة، فليلة يطلب منها لقاء عاجلا، وليلة يزف إليها بحزنٍ نيته في السفر إلى الريف.. فهما على هذه الحال، تدغدغ قلبيهما نسمات المدينة، ويكسبهما قوةً جبل (المقطَّم) الجاثم بالقرب منهما، وجذوة الحب تزداد اضطراما كل يوم...
هذا مجموعة من المشاهد التي اخترت أن تكون وصفا لرواية شجرة اللبلاب، مع أنها لا تصف الرواية بدقة، إلا أنها قد تغريكم بقراءتها، فكاتب الرواية وهو الأديب المصري الجميل محمد عبد الحليم عبد الله ناقش في "شجرة لبلابه" موضوعات كثيرة غير موضوع الحب والحنين، منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو فلسفي ومنها ما هو فني، فهو يجمع في روايته كل هذه القضايا ويوفق بينها في نص متين وواضح، نص غني بالأحداث، وواقعي، ومكتمل.
فبينما تقرأ شجرة اللبلاب لن تجد صعوبة في وصف المكان ولن تشعر بغرابته، ولن تعاني من كثرة الألفاظ وتنوعها المفرط، ولن تضيع منك الشخصيات، فكل شخصية مستقلة تمام الاستقلال عن الأخرى، وكل شخصية تمثل موقفا متفردا غير عشوائي ولا حائر.
في الرواية نوع من الصراع الحقيقي بين الإنسان والحياة والمجتمع، فيحاول الأب بعد وفاة زوجته أن يتزوج من أخرى شابة طامعة في المأوى والمال، فما تلبث أن تسيطر عليه وتصرفه كما شاءت، ويحاول حسني أن ينصرف إلى حياة العلم والفن ليتخلص من شبح زوجة أبيه التي كانت تخونه مع ابن عمها، وتحاول أخته أن تشغل نفسها بالزواج وتربية الأولاد وتسافر، ويحاول صديقه أن يتغلب على سقوطه المتكرر في مرحلة البكلوريا ويستعين بالموسيقى، وتحاول زينت أن تقرأ وتهزم حاجتها إلى رجل وتصنع لنفسها فلسفة خاصة... وكل هؤلاء لهم صراع متميز ونتائج مختلفة، فكأن الكاتب جرب أن يتقمصهم كلهم بأناة وروية، فساعة تكون مؤيدا لأحدهم ومناهضا للآخر، وساعة تعترض عليهم كلهم، وساعة تؤيدهم كلهم.
قرأت شجرة اللبلاب في فترة طويلة، برغم قصرها، إلا أنني فضلت أن أعيشها لا أن أقرأها قراءة سريعة ثم أنساها، فكنت أقرأها في المقهى، وفي السيارة، وفي المكتب، وفي حوش البيت، واستمتعت بها كل الاستمتاع.
للرواية نهايتان مختلفتان، إحداهما تراجيدية ومؤثرة ومنطقية؛ لأن الأحداث تسير من البداية على إيقاع حزين ومليء بالاعتراض واليأس، أما إحداهما -وهي نهاية الكتاب- فممتلئة أملًا وحبا للحياة، كأن الكاتب اختار هذا النوع من النهايات لئلا يعذب القارئ أكثر مما عذَّبه، وهي لم تعجبني؛ لأنها غير منطقية، ولأن النهاية الأولى كانت أنسب وأكثر انسجاما مع جو القصة. حسن، لن أفسد عليكم متعة المتابعة والاندهاش!
إنها من الروايات التي لا تلهيكم تفاصيلها عن موضوعها الرئيس، من الروايات التي تدخل حياتكم اليومية، وتدخلكم في أيامها، فلا تدرون أتقرأونها أنتم أم تقرأكم هي.


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.