دانتي وبياتريس، الفنان الإيطالي ج.بوتشيني |
ثم انطلقنا مع الأحداث التي تتابعت وأعطتنا في كل مرة اعترافا منه أو موقفا أو حادثة جعلتنا نكوِّن مفهوما خاصا للعوامل المتراكمة precipitating factors التي صنعت شخصيته المركبة. وبحثنا في نص الرواية المترجم عن كل ما يدعم مفهومنا لشخصيته، التي كانت مزيجا من شخصيات بارنوية paranoid وفصامية schizoid ومضادة للمجتمع anti-social وهستيرية histrionic.
وانتهينا إلى أن كل ما يمكن قوله هو أن شخصية همبرت معقدة جدا، وأن فلاديمير ربما رسم همبرت ليعطينا تصورا مرعبا لما سيحصل في غياب القانون عندما يتبدَّى الجزء الوحشي والحيواني من الإنسان.
والجدير بالذكر أنني أتوقع منكم أن تتساءلوا: هل يجب الالتزام بكل ما جاء في الرواية على أنه واقعي وصحيح؟ والإجابة هي نعم؛ لأن مجرد الشك في جزئية من الجزئيات يبطل مشروع هذه القراءة النفسية، وهذا المشروع على أية حال لا يهتم بكون همبرت واقعيا، بل كونه ممكنا جدا، وبناء على هذا، التزمت بكل ما جاء في الرواية التزاما ظاهريا بلا تأويل، وكان النص المترجم بين يدي هو التاريخ العائلي والشخصي والمرضي لهمبرت همبرت.
وإذا شئنا أن نعود عودة سريعة إلى الأدب، فإن بعض النقاد رأوا أن همبرت لا أخلاقي ومنحرف وكريه، وبعضهم رأوه ضحية إغواء الطفلة لوليتا المراهقة المشاغبة الكريهة، لكنهم لم يغوصوا في عالمه النفسي باحثين عن جذور هذه اللاأخلاقية وهذه القابلية للإغواء. فما هي نتائجنا نحن؟
حسبما لدينا من تفاصيل من حياة همبرت، أرى أن مشكلة همبرت الأصلية ليست هي عشق الفتيات القاصرات من السنة التاسعة حتى الرابعة عشر hebephilia، بل هي مشكلة تتعلق بالقوانين الإنسانية والاجتماعية التي تقيد من حركته وتلزمه بفعل أشياء لا يريد فعلها، كأن يتزوج فتاة في السادسة عشر ولا يتزوج أخرى في الثانية عشر. وفي الحق، إن الشواهد على هذا كثيرة جدا، وقد قرأنا مجموعة ليست قليلة منها، وأضيف إليها قوله بعد أن تزوج من شارلوت هيز: "ولكن الشعور الأوضح الذي راوحني هو شعور الهزء والسخرية من السيدة هيز ومن إيمانها الأعمى بحكمة كنيستها وحكمة نادي الكتاب الذي تنتسب إليه، وتقاليدها الأدبية، وتمسكها بمبادئ الأخلاق الاجتماعية بشكل متزمِّت"، ويذكر ما حصل بينهما في ليلة زفافهما، عندما وضع يده عليها بجوار غرفة لوليتا، فاصفر وجهها وطلبت منه أن يكف عن هذا؛ لأن من المعيب في "الأخلاق الجماهيرية" -كما يقول- أن تستسلم أم في غرفة ابنتها حتى لو كانت غائبة.
إذن، فلدينا (سيبيل) أخرى، وهي السيدة هيز. وإنني ألاحظ -مبتسما- هذا التشابه العجيب بين الشخصيتين: سيبيل وهيز. وكأن هيز هي صدى متأخر جدا في حياة همبرت لشخصية خالته سيبيل. ونحن من خلال معاملة هيز لابنتها، ومن خلال تذمر همبرت من هذه المعاملة، نلمس صدعا في ذاكرة همبرت، فكأنه يعيد خالته سيبيل في شارلوت هيز، ويعيد نفسه في لوليتا! فالمشابهة مذهلة حقا، الخالة سيبيل متزمتة، وكذا شارلوت متزمتة، وهمبرت يتيم، وكذا لوليتا يتيمة، وهمبرت لم يجد أحدا يذهب إليه، وكذا لوليتا لا تجد أحدا تذهب إليه.. ماذا بعد؟ إن فلاديمير الرائع يتقن رسم شخصياته، فهو يحيي الأشخاص الذين اختفوا عن سياق السرد في أشخاص آخرين وكأنه يرممهم ببطء، فهو يعيد فاليريا التي لم نعرف عن حياته معها إلا القليل في شارلوت التي عرفنا كيف عاش معها حاقدا ينوي قتلها والتخلص منها، فمن لم يعرف كيف عاش همبرت مع فاليريا فلينظر كيف هو مع شارلوت، وكذا نراه -نابوكوف- يحيي والد همبرت الذي لم نعرف عنه شيئا بعد أن ذهب إلى إيطاليا مع سيدة حسناء ولم يعد إليه، نراه يحيي والد همبرت في الكاتب كلير كويلتي، فكلير كويلتي رجل مشهور وثري وسكِّير وصاحب سهر وحسناوات وإباحيات، وما من شك في أن والد همبرت كان كذلك.
إذن، فثمة خيوط خفية بين شخوص الرواية يجب اكتشافها لتفسير سلوك شخصية ما في سياق ما، ولنستطيع مثلا أن نفسر رد فعل همبرت الإنساني والرحيم عندما زار لوليتا وقد صارت زوجة فقيرة في بيت رديء، هذه الإنسانية "المفاجئة" تعزز من رأينا في أن همبرت ليس شاذا وحسب، بل إن شذوذه ليس علته الوحيدة، وأن علته الأشد هي مجموعة من العُقد الراسخة في حياته، عُقدة اليتيم الضائع، وعقدة الطفل المكبوت، وعقدة المراهق المحروم، وعقدة الرجل الوحيد.. وهذه ليست أسماء لعقد نفسية بالطبع، إنما هي أوصاف لمشكلات حقيقية في حياة همبرت.. حقيقية ومؤلمة، وهذا ربما يجعلنا نتعاطف معه أكثر من أن نشكل حملة أخلاقية لإعدامه.
هذا الاستطراد كان أدبيا حينا ونفسيا حينا آخر، ويهمنا منه الجزء النفسي، وهو الجزء المتعلق بالشواهد على أن مشكلة همبرت هي مشكلة مع القانون والمجتمع لا مع الغريزة الجنسية. قرأنا سخريته من "الأخلاق الجماهيرية" لدى زوجته هيز، وقرأنا "تزمت" هذه السيدة وتطرفها الديني. فهي طلبت منه الزواج بعد أن صلت في الكنيسة وارتاحت إليه، وهي كتبت له رسالة طويلة بعد هذا أنهتها بلهجة المتشدد في تديُّنه: "وداعا يا أعز حبيب، وصلِّ من أجلي إن كنت تصلي"، وهي التي هددته بالانتحار إن اكتشفت يوما أنه لا يؤمن بالرب يسوع. فهذه الشواهد تشير إلى أن همبرت لم يكن مؤمنا بدين ما، وأنه كان يعد التدين ضربا من اتباع الأخلاق والقواعد التي لا يؤمن بها. فأي شيء يتعلق بالقانون والمجتمع آمن به همبرت بعد كل هذا؟
في الرواية رمزية عميقة، فالشخصيات لا تتحرك وتتوقف عبثا، إنها تحيا حياة مستقلة، وتمثل واقعا يسهل إدراكه في حياتنا نحن، وبالإضافة إلى الرمزيات التي شرحتها للتو، يرمز ابن عم همبرت (ماك كو) وعائلته إلى جماعة الناس الهادئين، الذين لا يزيدون على الانفعال مع مشكلات الحياة وتغيراتها بهدوء وصبر، ويرمز (تشارلز) ابن مديرة مخيم البنات إلى المراهق الذي وجد نفسه في مجتمع من الفتيات البعيدات عن أهاليهن القابلات للإغراء والعبث، ويرمز (كويلي) إلى الكاتب المشهور المتهتك الذي يستفيد من مكانته وثرائه، ويرمز (ديك) زوج لوليتا إلى الرجل العملي الذي لا يهمه الماضي بقدر ما يهمه الحاضر، وهو لا يسأل عن التفاصيل التي لا تخصه... والوحيد الذي يجمع كل هذه الشخصيات هو بلا شك همبرت. فهو من ناحية عادي وهادئ ومنفعل مع مشكلات الحياة، ومن ناحية مراهق عابث، ومن ناحية كاتب مشهور يستغل مكانته وثراءه، ومن ناحية عملي ولا مبالٍ. فنحن نستطيع أن نجد تفاصيل حياة همبرت الأخرى في تفاصيل حياة غيره من الأشخاص في الرواية، يمكن مثلا أن نلمس التطابق بينه وبين (كويلتي) في كثير من النواحي، وخصوصا أن كلاهما كاتبان، وكلاهما تعرفا على لوليتا واستغلاها، فهمبرت كان يعطيها دروسا خصوصية، وكويلتي كان يشرف على أدائها في المسرح. ونستطيع أن نلمس في احتراق بيت ماك كو صدمةً وحدثا مروعا يغير مجرى الحياة، كما كانت وفاة آنابيل بالنسبة لهمبرت. والرواية غنية بمثل هذا التقاطع بين مسارات الشخصيات، لكن ما يهمنا هنا في قراءتنا النفسية هو أن همبرت همبرت كان شخصا مضادا للمجتمع. وإذا شئنا أن نعرف ما هي الصلة بين ملاحظاتنا واستنتاجنا الوحيد فلنقرأ كيف كان همبرت يصف كل هذه الشخصيات، التي تمثل مجتمع الرواية، والتي في الوقت نفسه تمثله هو. فهو منتقم من المجتمع، منتقم من نفسه، منتقم من القانون. والآن، لا يسعني إلا أن أبدي إعجابي الشديد بفلاديمير نابوكوف الرائع جدا، فنهاية رواية لوليتا هي من أبدع النهايات الروائية؛ لأنها تختصر كل الأحداث في رصاصة واحدة، قتل بها همبرت نفسه في جسد كويلتي، وخرج من البيت الوثير الأنيق الذي هو حياته القديمة، وترك في البيت جماعة من الرجال والنساء العاديين الذين يشربون ويصطادون غائبين عن الوعي والحياة، وخرج يقود سيارته مخالفا لكل القوانين والأعراف والأخلاقيات... ثم مات -كما ذكر جوان راي في المقدمة- قبل محاكمته، وهذه هي اللحظة التي يتكشَّف لنا فيها همبرت (الإنسان) لأول مرة!
وإنني أفضل أن أنهي هذه القراءة النفسية المتواضعة بترجمة هذا التحليل النفسي للشخصية المضادة للمجتمع anti-social من المرجع الرئيس الذي ذكرته في المقدمة (ص 135).
"المصابون بهذا المرض -مرض الشخصية المضادة للمجتمع- يظهرون فقدانا قاسيا للاهتمام بمشاعر الآخرين، ولا يبالون بحقوقهم، ويتهورون في أفعالهم، ولا يشعرون بالذنب، ويخفقون في التعلم من الخبرات السيئة، وغالبا يصبح سلوكهم أسوأ إذا شربوا الكحول أو تناولوا المخدرات (همبرت كان يعاني من الأرق ويتناول عقارات منومة). نشاطهم الجنسي يخلو من الحنان والرقة، وربما آذوا وأهانوا الآخرين، كالشريك الجنسي أو أي طفل يمكن أن يُساء إليه جنسيا أو جسديا. علاقاتهم ضيقة ولا تدوم طويلا برغم جمالها، وهم غير مسؤولين ولا ينتمون إلى الأعراف الاجتماعية، ولا يخضعون للقواعد، وربما يخرقون القانون باستمرار، وغالبا يرتكبون جرائم عنيفة، ومخالفاتهم عادة تبدأ في مرحلة المراهق. لا أهداف لهم، ولا يخططون للمستقبل، وغالبا يكون تقييم عملهم غير مستقر، وهم معروفين بالإقالة أو الطرد. يركبون المخاطر، غير آبهين بسلامتهم ولا سلامة الآخرين. مهتاجون، وعندما يغضبون يعتدون على الآخرين بعنف. هذه الصفات لهذه الشخصية مرتبطة بفقدان شديد للشعور بالذنب أو الندم، وإخفاق في تغيير سلوكهم استجابة للمعاقبة أو النتائج المخزية. يتجنبون المسؤولية، ويلقون باللوم على الآخرين، ويبررون أخطاءهم. مخادعون وغير مسؤولين عما يتعلق بالمال".
* أنا لست متخصصا في علم النفس، ومصدري الوحيد في هذه الدراسة هو قراءتي الطبية والتذوق الأدبي لا غير، وإنني أرجو أن أعود فأصحح الأخطاء وأطور هذه التدوينات الأربع.
0 التعليقات:
إرسال تعليق