29‏/09‏/2015

كتاب علم النفس التطوري: قراءة سريعة



David Buss
اعتاد القارئ العربي المهتم بعلم النفس أن يستمتع بنظريات سيغموند فرويد في الجنس والطفولة، أو تجارب إيفان بافلوف وسكنر السلوكية، أو أبحاث جان بياجيه المعرفية، وسمع عن علوم نفس كثيرة، عن علم النفس "الاجتماعي" أو علم نفس النمو، أو علم نفس الشخصية. لكنه نادرا ما سمع عن علم نفس "تطوُّري evolutionary". ولعل خوفه من الاقتراب من أي موضوع تطوري أو "دارويني" هو أحد الأسباب.
علم النفس التطوري Evolutionary Psychology باختصار هو منهج لدراسة القضايا والمشكلات النفسية من منظور تطوُّري  حديث. فبعد أن بدأ علماء الأحياء يفسرون تركيب الإنسان الفسيولوجي وآلياته، ويرجعون إلى الجذور القديمة التي تحدَّر منها هذا الكائن، راح علماء النفس يفسرون التركيب العقلي ويشرحون السلوكات النفسية المختلفة انطلاقا من مفهوم التكيُّفات adaptations والانتخاب الطبيعي والجنسي.

هذا الكتاب هو من أوائل الكتب التي قد يعثر عليها الباحث في هذا المجال، وبالنسبة لي، من أهمها وأبسطها. مهَّد ديفيد باس في صفحاته التسعمائة تمهيدا رائعا لمن لا يعرف الكثير من المعلومات عن علم النفس التطوري. في منتصف القراءة ستشعر بالنشوة، وتزعم أنك قادر على تفسير أي سلوك نفسي بمجرد العودة إلى بيئة بدائية وافتراض مشكلة تطورية!

يبدأ المؤلف بنظرة عامة إلى أسس علم النفس التطوري، ويقف وقفة قصيرة عند تاريخ الفكر التطوري، مرورا -بالطبع- بنظريتي التطور القديمة والحديثة، مهيئا القارئ لمشوار طويل وكم ضخم من الدراسات والنظريات التي ربما لم يكن يعرف عنها شيئا، ثم يعرج على المحطات الأكثر أهمية في علم النفس بشكل عام، مثل التحليل النفسي الفرويدي، ونظريات وليم جيمس، وجون غارسيا.
من الجيد أن تكون قراءة الفصل الأول متمهلة متعمقة، خصوصا لمن لا يملك الكثير من الأفكار عن نظرية التطور، ففهم هذا الفصل سيسهل فهم الفصول التالية حتى نهاية الكتاب. وأرى أن أهم ما يجب الإلمام به هو نظرية اللياقة المتضمنة Inclusive fitness theory لهاملتون.

بدءا بالباب الثاني، تظهر مشكلات البقاء واحدة بعد الأخرى: جمع الطعام، والصيد، وتفضيلات المأوى، والخوف، ثم تحديات الجنس والاقتران، والاختلاف بين الجنسين في اختيار الشريك، والعلاقات قصيرة المدى وطويلة المدى، وجذورها الأولية، ثم قضايا التنشئة والقرابة، والصراعات بين الآباء والذرية، والأسرة، وصراعات الجنسين حول الاستثمار في الأبناء، والسيطرة، والعدوان، والحرب... إلخ. وهي أبواب لا تخلو من الجديد والظريف، فمثلا ستعرفون لماذا يبقى الشباب في أيامنا وقتا أطول داخل الأسرة؟، أو لماذا قد ينحرف السلوك الجنسي في الذكور والإناث إلى أبناء جنسهم، لماذا يموت الناس؟ لماذا نفضل العودة إلى الأماكن التي كنا فيها بدل البحث عن أماكن جديدة؟ لماذا نخاف من الثعابين ولا نخاف من مفاتيح الكهرباء أو ركوب الطائرات؟ وستفاجئكم نتائج الدراسات الكثيرة بما لا تكادون تصدقونه أحيانا. مثل نتائج الدراسة التي بحثت في حب الأقارب لنا، إذ كان حب الجدات للأم والخالات والأخوال ورعايتهم لنا دائما أعلى من الجدات للأب والعمات والأعمام. هذا بسبب "عدم يقين الأبوة" الذي ربما يضمره الرجل سواء كان أبا أو جدا أو عما، فهو غير متأكد دائما من أبوته لهذا الطفل (يحدث هذا بشكل لا واع)، بينما لا تشك جدتي لأمي -مثلا- في أن أمي هي ابنتها 100%، ولا يهم إن كانت من أبي أو من رجل آخر، ومن ثم -حسب نظرية الاستثمار الوالدي- لن تخسر استثمارها في تربيتي والاهتمام بي أنا الذي أحمل 12.5% من صفاتها الوراثية (جيناتها).

تنتهي هذه الجولة الطويلة بباب أخير يقترح فيه المؤلف توحيد فروع علم النفس التقليدية (اجتماعي، معرفي، نمو، شخصية...) في علم نفس "متكامل"، ويذكر حاجات كل فرع إلى علم النفس التطوري.

قرأت الكتاب -كما أفعل مع الكتب الكبيرة- في عدة شهور. فضَّلت التأني والفهم العميق لكل باب، وأحيانا البحث لأيام في نظرية واحدة. ثمة نظريات لم أكن أعرف عنها شيئا البتة: اللياقة المتضمنة inclusive fitness، الاستثمار الوالدي parental investment، الغيرية المتبادلة reciprocal altruism، والانتقاء الجنسي sexual selection. وتعرفت إلى علماء جدد مثل ويليام هاملتون، روبرت ترايفرز، إدوارد ويلسون، وبلا شك الرائع ديفيد باس. ولا يخفى على قراء تدويناتي النفسية (فلماذا نموت؟، أفكار تطورية: أكل التوابل)
 أنني اعتمدت على هذا الكتاب بشكل أساسي.

إنها فرصة لمتابعة علم شاب ينمو أمام أعيننا... قراءة مدهشة!
* الشكر الكثير والمعطَّر للدكتور اللبناني مصطفى حجازي على ترجمته الأنيقة جدا لهذا الكتاب الأساسي. 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.