07‏/09‏/2015

أن تقرأ لوليتا في طهران



للفنان الإيراني فخر الدين مخبري
عثرت على هذا الكتاب أثناء بحثي عن المقالات والكتب التي ناقشت رواية (لوليتا) للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف، قمت بحفظه ولم أنو قراءته، ثم بعد أيام احتجت إلى قراءة بعض صفحاته الأولى لتحريك الوقت ليس أكثر، ثم وجدتني كل يوم أقرأ بعض الصفحات قبل أن أنام، وفي الجامعة، وفي الطائرة، وفي منتصف طابور طويل... لأنه من نوع الكتب الطويلة التي لا تفضل أن تنهيها في أسرع وقت. يغريك بالاحتفاظ به أطول مدة ممكنة وقعُه في نفسك، وثقافته الأدبية، ولغته السردية والشاعرية، وهذا التناصُّ العجيب الذي يحدث بينه وبين الأحداث الحاضرة. 
لم أقرر اقتباس شيء منه إلى الآن، لكن إذا كان لدي ما أحتفظ به، فهو هذا المشهد الحقيقي، عندما تحاول آذر نفيسي تعليم طلابها وطالباتها كيف يرقصون رقصة من تلك التي كان يرقصها الناس في زمن (جين أوستن)، فتشعر بالخيال يطغى على الواقع المؤلم، وكأنك تشاهد المشهد الأخير من (مجتمع الشعراء الموتى)، أو أي لقطة من فيلم أراد مخرجه أن يحرج مشاعرك ويستفزك.


"فأسألهن: هل بينكن من تجيد الرقص الإيراني؟ الكل ينظر إلى (ساناز)، فينتابها الخجل وتتمنع. نبدأ بمشاكستها واستفزازها لتفعل، ونشكل دائرة حولها. فتتحرك بحذر أول الأمر، لنبدأ بتشجيعها ونحن نصفق وندندن إحدى الأغنيات. تذكرنا (نسرين) محذِّرة بأن نخفض من أصواتنا. تبتدئ (ساناز) بحياء خطواتها الصغيرة الرشيقة الأولى، ويتمايل خصرها بتناسق وانتشاء. كلما زاد مرحنا ومزاحنا، ازدادت (ساناز) جرأة، فراحت تميل برأسها ذات اليمين وذات الشمال، وراح كل جزء من جسدها يتنافس في إثبات وجوده وجذب الانتباه إليه. يرتعش جسدها وهي تخطو بخطواتها القصار وتتراقص بأصابعها ويديها. تلتمع في عينيها نظرة من نوع خاص، نظرة جريئة ومغرية معا، نظرة خلقت لتغوي، لتشد إليها الناظر، نظرة سرعان ما تنكسر وتتراجع إذ تنتهي الرقصة، وتفقد (ساناز) قوة نظرتها بانتهائها". 

درَّست الأستاذة آذر نفيسي الأدب الإنجليزي في جامعة طهران والجامعة الإسلامية وجامعة الإمام الطباطبائي. هذا لا يعني أهميتها الأكادمية وحدها، بل أهميتها السياسية؛ فهذه الجامعات كانت أرض الثورة الإيرانية في أواخر سبعينات القرن الماضي، فشهدت آذر كغيرها من المحاضرين والطلاب ما فعلته الجمهورية الإسلامية، وجماعة حماية الأخلاق، والطلاب الثوريون الذي انتموا إلى أحزاب عدة يكاد يصعب أن تجتمع في قاعة تدريس واحدة. لكنها أيضا عاشت سنوات رائعة، ملأى بالفن والإرادة والحرية. في صفها كان اليساري المتطرف يجلس بالقرب من الإمبريالي، والسلفي يناقش روايات هنري جيمس مع التقدُّمي والليبرالي والعلماني، بل ربما اجتمع هؤلاء كلهم في محاكمة جادة لرواية (غاتسبي العظيم)، وكانت الأستاذة هي المدَّعى عليه، وكان القاضي أحد الطلاب. 

عندما قرأت ما كُتب عن هذا الكتاب، لمست سوء فهم عند أكثر الكتاب، فهم يقدِّمون الكتاب بوصفه: أستاذة في الأدب الإنجليزي تجتمع كل خميس مع طالباتها السبع وتدرسهن رواية لوليتا. وأدركت أنه الخطأ الشائع نفسه عند الكثيرين منا؛ كتابٌ يكتبون عن كتب لم يقرؤوها! فالكتاب إذن له شأن آخر، إن ال 572 صفحة التي تفور بين جلدتيه لا تقدم روايات نابوكوف: لوليتا، آدا، دعوة لضرب العنق، فحسب. إنها تقدم وتناقش وتحلل "غاتسبي العظيم" لسكوت فيتزجيرالد، و"مدام بوفاري" لفلوبير أيضا.. تُسقط شخوص "ديزي ميلر" و"السفراء" لهنري جيمس و"الكبرياء والتحيز" لجين أوستن على الواقع الاجتماعي خلال الثورة وبعدها، وقد تجد أن أرانب وقبعات "أليس في بلاد العجائب" للويس كارول مثالا ساخرا للترويح عن النفس، أو لشرح ما يحدث بطريقة المغامرات والأساطير. 


النسخة العربية من ترجمة ريم قيس كبة، منشورات الجمل
"حينما يصبح الشر فرديا وشخصيا ويصبح جزءا من تفاصيل الحياة اليومية، تصبح مقاومته هي الأخرى فردية. ويصبح السؤال الجوهري الأهم هو: كيف للروح أن تقاوم وتبقى على قيد الحياة؟ ويكون الجواب الأهم هو: بالتمسك بالحب والخيال. لقد أفرغ (ستالين) روسيا من روحها وهو يسكب فيها وابلا من الموت "القديم". بيد أن (مانديلستام) و(سينيافسكي) أعادا إحياء تلك الروح وهما يقرآن القصائد لزملائهما السجناء، ويكتبان عن كل ذلك في يومياتهما. يقول (بيللو): ربما أن تبقى شاعرا في ظل ظروف كهذه فهو يعني أيضا أن تصيب كبِد السياسة، وبذلك تكون المشاعر الإنسانية والتجارب الإنسانية والأشكال والوجوه الإنسانية كلها قد استعادت مكانتها الصحيحة في المقدمة". 

كلما وقعت عيناي على عنوان الكتاب، أحس برغبة عميقة في تغييره كيفما أشاء، فبالرغم من أن قرابة ربع قرن بين الثورة الإيرانية وهذه الثورات التي تنتشر في كل مكان من الأراضي العربية، ستشعرون وأنتم تقرؤون "لوليتا في طهران" أنكم تقرؤونها في بلدانكم أيضا، فتحسون برغبتي العميقة، وأنتم تدركون أن "طهران" -بشكل مخيف- يمكن أن تكون أي مدينة أخرى، وأن "مهشيد" و"ساناز" و"نسرين" هن فتيات حقيقيات يمشين بيننا في أطراف الشوارع خائفات من المجهول والغامض والمتسلِّط. 
يرى معظم القراء أنه سيرة ذاتية، وبخلافهم أرى أن تصنيفه صعب، فإذا التفتنا إلى لغة الصراع فيه وتفرد شخصياته وصور أحداثه وصوت الراوي الذي لا يتوقف عن السرد المرتب والمركز و"اللمسة الدرامية" كما تقول آذر، نجد أننا نقرأ رواية طويلة محكمة، وهذا في الواقع ما وجدته. لكن إذا تابعنا القراءات الأدبية العميقة للأعمال الأدبية العالمية وشخصياتها وكتَّابها، سنصنفها دراسة أدبية تأمُّلية. وبالطبع، لن يكون من الصعب أن نراها تحليلا سياسيا، أو -أحيانا- تشخيصا نفسيا ممتازا. لكن الأهم أن الكتاب يمثل وعاء من الذهب الخالص سكبت فيه الكاتبة القديرة وجع أعماقها ووجدان روحها الحرة، بغض النظر عن كونه سيرة ذاتية أو رواية أو أي صنف آخر. 

يبدأ الكتاب برواية "لوليتا"، يرجع خمسة وعشرين عاما إلى "غاتسبي العظيم"، يقف طويلا في عالم هنري جيمس، وأخيرا ينتهي في القرن الثامن عشر مع جين أوستن. 

وددت لو أن بإمكاني تلخيص كل باب في تدوينة، لكن هذا يحتاج إلى إعادة القراءة أكثر من مرة، ويحتاج إلى قدرة خاصة على التلخيص، وأنا لا أتمتع بهذه القدرة. لذا سأوضح انطباعاتي وتأملاتي التي لازمتني أثناء القراءة، والتي كتبت بعضها في أماكن مختلفة. 

تصور أنك تعيش في مدينة كطهران، أو فلتتصور أنك عائش في دمشق أو عدن هذه الأيام، ما سيكون موقفك الشخصي؟ هل ستتجمهر وتصيح حتى ينفد صوتك؟ أم ستخلو إلى أعمالك متناسيا ما يحصل؟ أم ستغادر إلى مدينة أقل إزعاجا؟ هذه هي بعض الحلول المؤقتة التي نستطيع أن نتهمها بأنها (غير مثمرة)، ما رأيك؟ فما الذي كنا سنستفيده من آذر نفيسي لو أنها تركت كتبها وثقافتها وانفصلت عنها وراحت تخترق صفوف المتظاهرين وترمي باللعنات؟ لا شيء. لكن ما الذي فعلته آذر بالضبط؟ 

لقد عاشت آذر عصرها بإخلاص، فهي لم تكن كـ "ساحرها" الذي اعتزل كل الأحداث ولم يخرج من بيته، وفي الوقت نفسه لم تكن مثل "السيد بحري" أو "السيد فرصتي" اللذين حافظا على مواقفهما الثورية وانفعلا مع الأحداث السطحية بالطريقة التي نألفها جميعا. آذر حرصت على بقائها في جامعة طهران؛ لأنها آمنت بأن التدريس هو فرصتها الأخيرة لتقديم شيء إلى بلدها. وفي جامعة طهران درَّست روايات عالمية كانت ممنوعة بوصفها إباحية وغير إسلامية آنذاك، وحاولت أن تعيش الواقع السياسي المزعج في أحداث هذه الروايات. وأيضا، لم تكن خيالية لهذا الحد، بل واجهت تفاصيل ما يحدث خارج الجامعة وخارج بيتها وحتى خارج مدينتها بكل هدوء، وبكل غضب، وبكل استسلام، وبكل تمرد، وبكل ارتباك في كثير من الأوقات. 

والآن، دعونا نتعرف إلى العلاقة بين "لوليتا"، و"طهران"...

"لوليتا" في "طهران" مظلومة ومضطهدة كما كانت "لوليتا" في عالم "همبرت همبرت". فهي لا تعرف ما الذي يدور حولها، وهي ضعيفة، وهي مرغوبة، وهي مرفوضة، وهي مطاردة، وهي مراقبة، وهي جميلة وحرة فقط في أعماقها. "لوليتا" تبحث بقلق قبل أن تخرج إلى الجامعة كل صباح عن خصلة شعر سقطت من إيشاربها. "لوليتا" تُفتَّش كما يفتش المجرمون عند البوابة. "لوليتا" توقع محضرا لأنها ركضت في الحرم الجامعي. "لوليتا" تطرد من الجامعة لأنها ضحكت بصوت عال. "لوليتا" تُسجن وتعذَّب وتغتصب. "لوليتا" تخرج من السجن للتتزوج من رجل لم ترضه. "لوليتا" تُعدم. "لوليتا" تُرجم لأنها زانية. "لوليتا" لا تشاهد التلفاز. "لوليتا" لا تأكل الآيسكريم في الشارع...
هذه بعض مظاهر المرأة في إيران طيلة سنين الثورة، و"المرأة" هي آذر، وتلميذاتها: "نسرين"، "مهشيد"، "آذين"، "مانا"، "ساناز"، "ياسي"، "ميترا". وكل امرأة قدر لها أن تقاسي الاضطهاد والعبودية في ظل الأنظمة الشمولية، وأعني هنا "الجمهورية الإسلامية" في إيران كما وصفتها آذر في معظم مواضع الكتاب. 
في تلك الأيام، كانت تسير سيارة تويوتا البيضاء، وفيها رجال ونساء من الشرطة لـ "حماية الأخلاق"، فيقبضون على أية امرأة تمشي مع رجل أجنبي، ويرصدون انضباط النساء وطريقة لبسهن للحجاب، يلاحظون لون الجادور وحجمه وكم عضوا مثيرا يبرز منه، يلاحقون الرجال والنساء إلى بيوتهم، وربما دخلوا عليهم ليتأكدوا من أنهم لا يشاهدون التلفزيون. 
وفي تلك الأيام، كان الكثيرون متهمين بالـ "غربنة"، وكانوا يطردون من الجامعات في أحسن الأحوال، إن لم يُعدموا علنا بلا رأفة. وكان يعيش "الرقيب شبه الأعمى"، وهو الرجل الذي يقرر ما الذي سيُذاع ويُعرض بالرغم من ضعف بصره الحاد، هو الرجل الذي يعاني منه المخرجون في هذه الأيام، والذي يعاني منه المطربون، والكتَّاب، والفنانون عموما. 

إنها أحداث تجذبك إلى معايشتها مرة أخرى؛ لأن تكرارها يثيرك. تتماهى معها، فتكتشف وأنت تقرؤها أنك تقرأ "لوليتا" في جامعتك، وقريتك، ومحيطك. ثم تعوزك الحلول، فتفضل الاستمتاع بلغة آذر نفيسي الخلابة. أنا الآن ألمس هذه الحاجة إلى قراءة "أن تقرأ لوليتا في طهران"؛ لفرط التشابه بين واقع آذر وواقعي وواقعكم أيضا. وأستطيع أن أزعم أن كاتبا آخر سيحتاج إلى قراءته في 2030 أو 2050. هذا إذا لم يجده محجوبا أو ممنوعا من الأسواق. 


دعونا الآن نعد إلى ما فعلته آذر بالضبط. لقد اختارت الفن واقعا مشابها لكنه يختلف بكونه فصيحا وجميلا. في الفن، وجدت آذر وطالباتها الخائفات ملاذا. والإنسان يشعر بالأمان عندما يقرأ الذين يشبهونه. وهذا الموقف -أعني التوجه الفني- هو في رأيي الموقف الحقيقي و"المثمر". فما الذي يفعله الناس في الثورات غير أن يموتوا أو يصمتوا أو يثرثروا باللوم والنقد والاتهام؟ بإمكانهم أن يكونوا فنانين. فالفنان هو الوحيد الذي سيحتفظ بأوجاعه وسيبقى بعد أن يفنى الجميع، وحتى بعد أن يفنى هو. والفنان هو "اللامنتمي"، وهو الذي سيدرك مستقبله. والفنان هو الذي سيصف ويقاوم ويشعر، ثم يخلِّد شعوره هذا إلى الأبد. إننا نستعيد "محمود درويش" عندما توجعنا ذكرى القضية الفلسطينية، لكننا لا نذكر الأشخاص الذين فضلوا التذمر وحده. ونقرأ "نزار قباني" هذه الأيام ونسخر معه من "الحكام العرب"، ونقرأ "نابوكوف" أو "جويس" ونعرف من خلالهما عصرهما، وكيف ماتا ولم يموتا فينا!

فما فعلته آذر هو ما يحسن بالثوَّار المثقفين أن يفعلوه بدل إزعاجنا يوما بعد يوم بتنبؤاتهم وإحصاءاتهم التي بات الجميع قادرا على الإتيان بمثلها. لا تريد الشعوب إلا أن تصرخ، فمن ذا الذي سيكف عن الصراخ وينقل صراخ الأطفال الجوعى ومئات السوريين الذين غرقوا قبل أيام؟ من ذا الذي سينقله إلينا وإلى من بعدنا؟ هل هم المثقفون الذين يئسوا وفضَّلوا العويل مع الآخرين من العامة؟ أم أمثال آذر التي عاشت كما عاشت العامة وبقيت كما يبقى الكتَّاب؟

قراءة لوليتا في طهران تطول، وكم كنت أنوي أن أقتبس الكثير من المقاطع والسطور التي تستحق الاقتباس، لكنني أخشى أن أطيل عليكم. هذا هو الوقت المناسب لقراءة لوليتا في الوطن العربي لمن يهمه الأمر. وهو الوقت المناسب لنغير مواقفنا السطحية تجاه المآسي التي يكابدها إخواننا المنكوبون، فلا يجدر بنا إزعاجهم بالمزيد من الصراخ، وما يجب فعله حقا هو أن نعلمهم كيف يحاربون الموت بالفن. 


* قدمت دراسة نفسية لرواية لوليتا في هذه المدونة على هذا الرابط



4 التعليقات:

تدوينة فخمة! أشكرك للعرض

هيثم الشيشاني
أحييك يا عزيزي وأشكرك على تشجيعك :)

سعيد للغاية للعثور على مدونتك
أقوم "بزيارة" تدوينات قديمة حالياً :)

صدقني إنني سعيد بمتابعتك
وأرجو لك وقتا ممتعا مع التدوينات
ومع التدوينة القادمة التي ستكون عن روايتي المنشورة (سماوات جائعة)
شكرا لك

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.