كيف سنبدو لو حاولنا تمثيل وجه "غيور"؟ غاضبين؟ أم حزينين؟
أم خائفين؟
في الواقع، لن نستطيع أن نفعل هذا. هل جربتم؟ أتوقع أن مفهوم الغيرة
الآن يبدو لكم غامضا. فما هي الغيرة؟ هل هي عاطفة أساسية للحياة؟ أم هي وسيلة
لنجاح التكاثر؟ أم مجرد رد فعل رومانسي مبهم؟
في مقالة حديثة (2014) يوضح بروفيسور علم النفس التطوري David Buss "المزايا التطورية التي تمكننا من تحديد العواطف الأساسية"، ويضرب الغيرة الجنسية sexual jealousy مثلا.
حقا، كيف نستطيع أن نصف عاطفة ما بأنها أساسية أو لا. ما هو المعيار؟
هل هو قوتها؟ أم شيوعها؟ أم مساهمتها في حفظ البقاء؟...
حاول بعض العلماء سابقا حصر العواطف الأساسية. عالم النفس الأميريكي Paul Ekman ذكر سبع عواطف أساسية، هي: "الغضب،
القرف، الخوف، السعادة، الحزن، الاندهاش، الازدراء". لكن Ekman لم يختر هذه العواطف السبع لأنها المفضلة لديه أو لأنها تبدو
شاعرية! لقد وضع لها إطارا نظريا وهو أن العاطفة الأساسية يجب أن تمتاز عن غيرها بأن
تكون لها: ملامحُ facial
expression خاصة، إشارة عالمية universal signal، فسيولوجيا خاصة، بداية سريعة، مدة وجيزة،
وأن تكون تلقائية، وموجودة في الرئيسيات الأخرى، وأخيرا أن تحدث بلا تدخل منا unbidden occurrence.
فإذا أردنا تصنيف الغيرة، هل سيوافق السيد Ekman على ضمها إلى عواطفه الأساسية؟ لا. فالغيرة أولا ليست لها ملامح
خاصة –أعيدو التجربة- ولا بداية سريعة ولا مدة وجيزة. لكن يمكن أن تكون الغيرة
مزيجا من ثلاث عواطف أساسية هي: الغضب، الحزن، الخوف. وهي عواطف أساسية.
Robert Plutchik هو عالم نفس آخر شغلته العاطفة من ناحية تطورية، وقد ذكر ثماني
عواطف أساسية، هي: "الغضب، الخوف، الحزن، القرف، الاندهاش، الحدس (التوقُّع)،
الثقة، الاستمتاع". وكما تلاحظون، الغيرة هي العاطفة الغائبة لنفس السبب، وهي
شروط Plutchik التي لم تتوفر في عاطفة الغيرة.
هناك سؤال مهم يجب أن نجيب عليه عندما نفكر في حُسبان أية عاطفة أو
آلية نفسية أساسية أو غير أساسية. هل طور الانتخاب الطبيعي العاطفة لأنها حلَّت
أثناء تطورها مشكلة تكيُّفية تابعة للنجاح التكاثري أفضل من العواطف الموجودة في
السابق؟
إذا عدنا لشروط Eknman و Plutchik فإن كون العاطفة موجودة في الحيوانات الأخرى غير الإنسان –رئيسيات
أو غيرها- ليس له تأثير في أوَّلية العاطفة (كون العاطفة أولية أو أساسية). مثلا، المِلاحة
بواسطة الصدى echolocation هي عاطفة أساسية في الخفافيش مع أنها نادرة
(أو غير موجودة) خارج هذا النوع. مثال آخر هو تكيُّف اللغة عند الإنسان وغيابه في
الأنواع الأخرى.
نقطة مهمة: أن تكون للعاطفة وظيفة تكيُّفية يجب أن يُفهم حسب الفهم
الحديث للوظيفة في البيولوجيا والسيكولوجيا التطورية. فمحرِّك الانتخاب الطبيعي لم
يعد كما كان يُفهم قديما: يسعى لنجاح البقاء survival success. بل يسعى لنجاح التكاثر reproductive success. وهذا مهم حقا، فالأُطُر السابقة التي حاولت تصنيف العواطف كانت
تتساءل إذا كانت هذه العاطفة ساهمت في حفظ البقاء. لكن حفظ البقاء ليس هو غاية
التطور كما قرأتم، بل غايته هو حفظ النسل عن طريق نجاح التكاثر. وفي الواقع، هناك
أمثلة كثيرة على نجاحات تكاثرية تحدث حتى على حساب البقاء (مستويات التستوستيرون
العالية -لها دور في النجاح التكاثري- وخطرها على حياة ذكور الإنسان -كلفة بقائية-).
وهذا مهم أيضا فيما يتعلق بالغيرة، فهي لا تحل أية مشكلات تكيفية
بقائية. لكنها بالأحرى تطورت لحل مشكلات تكيفية تكاثرية (متعلقة بالاقتران).
إن فلانا يغار من فلان لأنه قد يتسبب في خيانته، في ثني شريكته عن
علاقتهما، في سرقتها منه، أو حتى التشكيك في أبوته الجينية لذريته. وهذه بالتحديد
هي المشكلات التكيفية التي ربما تكون الغيرة تطورت لحلها. دعونا نفترض هذا
السيناريو: يدخل الزوج ويجد زوجته في علاقة جنسية مع رجل آخر. بعد عدة شهور لاحظت
الزوجة أنها حبلى. الغيرة في بادئ الأمر قد تمنع حدوث هذه العلاقة أساسا. لأن هذا
الحمل يمكن أن يكون من إخصاب الزوج أو من إخصاب الرجل الآخر (عدم يقين أبوة).
وفقا لهذا الإطار التحليلي الجديد، يمكن حسبان الغيرة عاطفة أساسية.
وهناك أدلة على أن هذه العاطفة المعقدة (الغيرة) تطورت لأنها حلت العديد من مشكلات
الاقتران الكبيرة التي كانت (وممكن أنها لم تزل) متعلقة بالتكاثر. فهي أساسية
للتكاثر لا للبقاء. بل إنها قد تكون مدمرة للبقاء. جرائم العشق مثلا، يمكن أن
تتسبب في أذية أو موت الشريك الجنسي الغيور.
هناك عواطف أخرى غير الغيرة يمكن أن تُعد أساسية إذا طبقنا هذا الفهم
الحديث للوظيفة التكيفية: الانجذاب الجنسي، الإثارة الجنسية، الحب الوالدي (حب
الوالدين للأبناء)، الحب الرومانسي، الذنب، العار، الكبرياء، الامتنان.
من المفترض أن المقطوعة الموسيقية في البداية Tango Jalousie"" تريد ترجمة عاطفة الغيرة إلى موسيقى.
الكمان آلة رائعة تحدث فينا الكثير من المشاعر الصادقة. لكن هل ما سمعناه يمكن أن
يكون موسيقى خاصة بالغيرة؟ أظن أن المقطوعة كانت خليطا مرتبِكا من الحزن العميق،
الغضب، الانفعال، العتاب وربما الوداع.. ولعل وجود البيانو الذي يختلف عن الكمان
في كثير من الصفات يوحي بوجود المُنافس الذي يُسمى في علم النفس التطوري mate poacher. هذا ما شعرت به.
المصدر:
Buss, D. M. (2014). Evolutionary Criteria for Considering an Emotion “ Basic ”: Jealousy as an Illustration. Emotion Review, 6(4), 4–6. http://doi.org/10.1177/1754073914534481
4 التعليقات:
كلام جميل. لا يوجد عندي -بصراحة- أي إضافة لا نوعية ولا غيره :)
--------------
ممكن تساؤل بسيط على كل: عاطفة التواضع (بشقيه المحدود أو الواسع) ألا يمكن أن تكون بذاتها عاطفة أولًا؟ + أن تنطبق عليها الشروط؟
أهلا بك صديقي، أرجو أن تكون بخير حال.
هل قدم التواضع حلولا لمشكلات تكيفية؟ هل يقدمها الآن؟ بداية لا أملك أية مراجع علمية. لكنني سأفترض أنه لم يتطور إلا بعد أن كان تكيُّفا بحد ذاته.. تكيفا لأي مشكلة تطورية. وغالبا ستكون اجتماعية. فالمتواضعون أكثر قربا من الجماعة، والمتكبرون بعكسهم أكثر بعدا وإثارة للنفور والعداء. (استثناء: الكبرياء في العلاقات الجنسية له دور آخر).
شكرا..
أنا بخير، الحمد لله. آمل أنك بخير وهناء .
"وغالبا ستكون اجتماعية" = هل قصدت أن (آثارها) اجتماعية؟ فقط أسأل لأفرق بينها وبين الأساسيات التي حطها العالم الول ولم يشمل الغيرة (كمثال) ضمنها.
--------------------------
"أن تحدث بلا تدخل منا unbidden occurrenc" = بعد القراءة لمرة ثانية؛ هل يمكن أن تكون أي من العواطف تلقائية وبلا تدخل منا؟ أم أن هذا المعيار نسبي يا ترى؟ التنشئة ، الموقف نفسه محملًا بتكرارات عديدة متشابهة ، وحتى التعرض لمفاهيم ومواقف متباينة من ثقافات مختلفة (بسن صغير) عناصر قد تكون مكوّنة (بكسر الواو) لعواطف معينة قد تعتبر أساسية لأنها لم تتأت بتدخل منا (تلقائية) مع أن التدخل المزعوم تحييده كامن ولكنه غير مباشر.
--------------------------
النجاح التكاثري في مقابل النجاح البقائي كأساس للفهم (+التفريق) الحديث لتصنيف العواطف (أو العواصف إن أردت) ينقل ال(محادثة) برأيي لبعد جديد (أو إضافي على الأقل) وهو: ما هو العامل الأساسي وما هو الثانوي في تعيين البقاء للنوع؟
إذا كانت الغيرة لا تحل أي مشكلات تكيفية بقائية فهل هذا يعني أنها (صناعية)؟ بمعنى أنها وليدة تطور البشر واختلاف طرائق تعاملهم بغية الانسجام مع تغييرات حياتية مفصلية طرأت -ولو ببطء- على أسلوب حياة البشر؟
طبعًا لا أدري ولكن -الله يعينك- أرمي بأفكاري في مدونتك بُعيد قراءتي للتدوينة وبعد بحث متواضع حول المسألة
تحت أمرك صديقي..
اجتماعية قصدت بها "المشكلة التطورية".
حدوث العاطفة بلا تدخل منا كان شرطا من شروط إكمان، وليس معيارا صارما. ولكن كما قرأت يا هيثم هذا الشرط كان متعلقا بالعواطف السبع التي ترتبط بتعابير وملامح خاصة. الغضب مثلا، لسنا نحن من نقرر متى وكيف نغضب!
الفهم الجديد للتطور بالانتخاب الطبيعي هو أن العامل الأساسي لبقاء النوع هو النجاح التكاثري لا البقائي. قد يعيش رجل ثلاثين سنة ينجب فيها خمسة أطفال، وسينجح في تمرير مورثاته أكثر من رجل عاش ألف سنة ولم يترك أية ذرية.
بعد قراء المقال، لا يهم أن تحل العاطفة مشكلة بقائية لتكون أساسية، المهم أن تحل مشكلة تكاثرية. في المثال الذي افترضته، قد يموت الزوج الغيور عندما يحاول الانتقام من الرجل الذي خانه مع زوجته، لكن الغيرة في أحسن الأحوال قد تؤدي وظيفة تكيفية لتيسير النجاح التكاثري.
سعيد بمناقشتك :)
إرسال تعليق