دانتي وبياتريس، للرسام الإنجليزي هنري هوليدي (1883) |
بعد قراءة الملخص أو الرواية كاملة، لا يستطيع القارئ أن يخفي اقتناعه التام بأن همبرت يعاني شذوذا جنسيا، ولن يبتعد هذا الشذوذ عن إطار البيدوفيليا Pedophilia أو ما يسمى أحيانا "عشق الأطفال" -يترجمها البعض بعشق الغلمان، لكن هذه الترجمة لا تتسع للفتيات الصغيرات- ولأن همبرت يحدد المرحلة العمرية لحورياته المسعورات بين تسع سنوات إلى أربعة عشر سنة، فإن المصطلح الأنسب لهذا النوع من البيدوفيليا هو الهيبيفيليا Hebephilia.
ولكن هل هذا الاقتناع صحيح؟ يمكن أن يكون صحيحا إذا اعتمدنا على التشخيص السريع غير المتأني للحالة، أي إذا نظرنا إلى ولع هذا الكهل همبرت بالطفلات الصغيرات وهوسه الجنسي بهن، ولم ننظر إلى طبيعة حياته في الجوانب الأخرى، ويمكن أن يكون خاطئا إذا اكتشفنا أن هذه الجوانب الأخرى تقترح حالات نفسية وأنماط شخصية مختلفة. ويحق لنا أن نتساءل: هل همبرت عاشق صغار pedophile جوهري؟ أم أن هناك اضطرابات نفسية هي التي تدفعه وتعزز لديه هذه المشاعر غير السوية؟ سنرى.
عندما قرأت الرواية، وجدتني أدون ما أصادفه من ملاحظات تتعلق بعلم النفس، وعندما انتهيت، كانت ثلاث صفحات كاملة تكتظ بالمصطلحات العلمية التي لا أجد علاقة قوية تربطها وتعطيني وصفا محددا لشخصية همبرت، فمن ناحية رأيت أنه مجنون بالشك paranoid (لعل هذا هو تعبير الكاتب الذي ترجمه المترجم بـ "مجنون")، ومن ناحية أراه شخصا عدائيا ومضادا للمجتمع anti-social، ومن ناحية أشك في أنه شخص فُصامي schizoid؛ لذا اضطررت إلى إعادة قراءة الرواية باحثا عن السياقات التي تهمني في دراستي النفسية، ومهملا السياقات الأخرى.
في هذه التدوينة سأعطيكم لمحة عامة وتفصيلا نفسيا لأول أربعين صفحة، أي إلى أن يعود همبرت من رحلة العشرين شهرا في القطب الشمالي...
يبدأ همبرت الحزين اليائس بخطاب رقيق في أول صفحتين، يوجهه إلى حوريته الحبيبة (لوليتا)، وهو خطاب شاعري بحق، لكنني لن أقف كثيرا عند التأملات الأدبية، بل سأقتبس الجزء الذي يتعلق بموضوعنا، وهو الجزء الذي يقول فيه: ".. والواقع أن لوليتا ما كانت خليقة بأن تأتي إلى الحياة لو لم أحب ذات مساء" وهنا يسهل علي أن أعد هذا التعبير مجرد نزوة لغوية لو لم أكن أقرأ ما يكتبه همبرت، لكنني مضطر إلى الاهتمام بهذا التصريح، وبناء عليه سأتهم همبرت بأنه لا يهتم بقيمة حياة الآخرين lacks of concerns for others، وإنني في الحقيقة لا أجازف بهذا الاتهام، فهمبرت أناني جدا ويمكن أن يعرض الآخرين للضرر والألم في صالح سعادته ونشوته، فأنتم ترونه يتزوج فتاة في العشرين (فاليريا) ثم يطلقها؛ لأنها لم تعد حورية مسعورة كما بدت له أول مرة، وترونه يتزوج من (الميس هيز) ليبقى قريبا من ابنتها، ويحرم (لوليتا) من حريتها في اختيار الأصدقاء لتبقى له وحده، فكل هذه الأفعال تقودني إلى هذا الاتهام، وهو على كل حال لا يفيدنا كثيرا ولا يعني لنا أي تشخيص، لكنه مهم كبداية.
بيئة همبرت الأولى غامضة نوعا ما، ولا أدري أألقي اللوم على همبرت أم على فلاديمير نفسه، فأنتم لا تكادون تحصلون على تصوير واضح للبيئة التي عاش فيها الطفل همبرت، وأقصد هنا البيئة النفسية التي تتمثل في الأحداث، والمشاعر وتأثيرها في نفس الإنسان، ودورها في تشكيل شخصيته. فالأم ماتت عندما كان همبرت في الثالثة، وعلاقته بأبيه جيدة وغير عدائية، وليس له أية إخوة أو أبناء أقارب يمكن أن نتبين منهم طبيعة الأجواء التي عاش فيها، لكن هناك شخصين أزعم أنهما أثرا فيه تأثيرا قويا، وهما خالته (سيبيل) ورفيقه الأمريكي المجهول. فأما خالته التي تولت رعايته بعد وفاة أمه فكانت طيبة برغم تزمُّتها، يصف هذا بقوله: ".. والواقع أنني أغرمت بهذه الأم الجديدة على الرغم من تعسف بعض القواعد التي وضعتها لحياتنا في البيت، ولعلها تعدني للحياة كأرمل أفضل من أبي المترمل" ولا يزيد شيئا، وبالنظر إلى شُح الوصف الواضح لبيئة همبرت، لا أجد مفرا من التمسك بهذا الاعتراف، وأعلق عليه أحداثا كثيرة حصلت بعد زمن طويل، فالخالة سيبيل إذن هي الناضجة الحنونة، ولكنها في الوقت نفسه المتزِّمتة التي تضع القواعد والحدود، فهل ربط همبرت هنا بين المرأة الناضجة والقانون الذي يحد من حركته؟ أم هل رأى فيها تجسيدا للقوانين الوضعية التي بقي طول حياته معارضا لها؟ لن يخلو الأمر من أحد الافتراضين، ولكنني أرى أن همبرت إلى الآن هو مزيج من كرهه لتزمُّت خالته، وحاجته إليها، وهذا يفسر اضطرابه الذي يعبر عنه لاحقا بدقة: ".. وهكذا فلم تكن المخلوقات النسائية اللواتي كنت أسمح لنفسي بمقاربتهن أكثر من وسائل ووسائط مسكنة ملطفة... لقد كان عالمي منفصما على ذاته، فقد كنت أحس بوجود جنسين من النساء، وأحس ببعدي عنهما معا، فأحدهما لا أتجانس معه، وثانيهما لا تسمح الأعراف الخلقية والمدنية والاجتماعية بأن أقضي منه وطري. لقد أدركت هذه الحقيقة الآن" فهو كما قرأتم ورأيتم لا يستطيع الفكاك من هذه الحيرة، يرى في النساء الكبيرات (أمثال خالته) وسيلة يضطر إليها اضطرارا، ويشكو من الكبت الذي يمارسه عليه القانون الخارجي، وسنعرف هذا النوع من الكبت بعد قليل.
وأما رفيقه الأمريكي فيذكره في المقدمة ويصف ما كانا يفعلانه من الحديث عن المغامرات الغرامية ومشاهدة الصور الإباحية، وهذه المعلومة غير ذات أهمية، فالكثير من الأطفال الموشكين على البلوغ يمرون بتجارب من هذا النوع ولا يصبحون فيما بعد شاذين كهمبرت.
فهذه هي بيئة همبرت الأولى، التي لا نستطيع أن نكتشف فيها أكثر مما اكتشفنا، بالإضافة إلى علاقته بالطفلة (آنابيل)، وهي العلاقة التي يعترف بأنها أثرت فيه أقوى تأثير، ولأتجنب الإطالة، لن أعيد تفصيل علاقته بآنابيل إذ فرغت من هذا في التدوينة السابقة، لكنني سأقتبس عدة اقتباسات ألمس فيها صلة بموضوعنا. يذكر همبرت أن آنابيل كانت تحلم بأن تكون "ممرضة"، وأنه كان بعكسها يحلم بأن يكون ".. جاسوسا مرموقا مشهورا". وإذا عدنا إلى تصريح له بتزمُّت أهله وأهل آنابيل في مراقبتهما، نجده يقول: "كنا تحت رقابة صارمة فلا يسمح لنا بالابتعاد معا عن مرمى ومسمع أهلنا"، وبعد كل هذا، لا يخامرني أي شك في كره همبرت للعادات والتقاليد والقوانين، وهذا يجعله شخصية معادية للمجتمع anti-social كما ذكرت، فهذا التشديد الاجتماعي الذي مارسته عليه أول مرة خالته سيبيل، ثم أهل آنابيل، هو الذي فرض عليه أن يتحيَّن الفرص لمعانقة آنابيل، ويحلم بأن يكون جاسوسا.
هذه الرغبة تهم كثيرا، فهي تفسر لنا الكبت الذي كان يعيشه، وتفسر لنا سلوكه الشاذ فيما بعد، فهو يقرأ كتبه بالقرب تجمعات الأطفال؛ ليحظى برؤية حورياته، وهو يتعمد ركوب المواصلات المزدحمة؛ ليستمتع برؤية وملامسة من تصادفه من القاصرات، وهذه أحيانا تكون سلوكات طبيعية، لكنها في حالة همبرت تعني اضطرابا في التفضيل الجنسي sexual preference، وخصوصا اضطراب التلصص Voyeurism والاحتكاكية Frotteurism، وأفترض -بما أنني في معرض الحديث عن اضطرابات التفضيل الجنسي- أن همبرت عانى أيضا اضطراب الفيتيشية Fetishism، فهو يفضل دائما في حورياته الأعضاء البعيدة عن العملية الطبيعية للجنس، فيفضل السيقان البضَّة، والشعر، بل ستقرأون في منتصف الرواية -تقريبا- أنه يتسلل إلى غرفة لوليتا ويشم ملابسها بعمق بعد أن خرجت إلى المخيم. كل هذه السلوكات غير الطبيعية واضحة في الرواية، وتفسر -التبصبص والاحتكاكية- محاولة همبرت للإفلات من قيود المجتمع والتنفيس عن الكبت الذي يعيشه، وقد يكون من الجيد أن نشفع كل هذا باقتباس من الرواية، عندما يقول: "ما أحيلى تلك اللحظات، لحظات كنت أطل فيها من نافذتي فأرى واحدة من تلك الصغيرات تتعرى أمام مرآتها وتراقب وتدرس جسدها بفضول... وما أحيلى تلك الملامسات المبهورة التي كانت تتاح لي في عربات الترام...".
لكن الدارس النفسي للرواية يفاجأ بقوة الاستبصار insight لدى همبرت، وأعني بالاستبصار قدرته على معرفة ما به من أمراض، فهو يصف نفسه بالشاذ، والسوداوي، والمجنون بالشك، بل ربما شخص حالته بأنها امتداد لقصته مع آنابيل، فهو يقول بكل موضوعية: "ولكنه يقنعني في النهاية بأن قضيتي مع لوليتا قد بدأت بآنابيل بطريقة سحرية مشؤومة"، ويقول: "إنني أعرف كذلك أن الصدمة التي سببتها لي وفاة آنابيل قد عززت التشتت النفسي الذي أصابني ذلك الصيف المشؤوم المفعم بالكبت وجعل من ذلك التشتت عقبة دائمة في طريق أي غرام صادفته في سنوات شبابي الباردة"، ثم يقول: "لقد ظلت ذكرى هذه الجلسة تحت خميلة الميموزا تلاحقني كاللعنة، ظللت دائما أشعر بشبح تلك الفتاة الصغيرة بأطرافها النحيلة ولسانها الدافئ وهو يلاصقني، ولم أستطع فك هذا السحر عني إلا بعد أربعة وعشرين عاما يوم أعدت إلى الحياة آنابيل في جسد لوليتا وشخصها"، وهذا تحليل نفسي فرويدي دقيق، ولا أظن أن الفرويديين سيقولون غير ما قاله همبرت عن نفسه، فهو يتحداهم ويسخر منهم، فيقول فيما بعد متلذذا برؤية الطب النفسي عاجزا عن معالجته أن المحللين النفسيين ربما سيشيرون عليه بأن يواقع لوليتا في ظل الصخور على شاطئ ما، يقصد ما يقترحه المحللون النفسيون دائما لفك العقدة decomplexation، فهم ربما يظنون أن حالة همبرت هي بسبب رغبته التي لم تكتمل عندما كاد يتمكن من آنابيل لولا ظهور الرجلين الذين قطعا عليه لذته.
لذا نرى البعض قد وصف الرواية بأنها تهكُّمية، أراد فلاديمير فيها أن يسخر من منهج التحليل النفسي الفرويدي الذي كان يسيطر في تلك الحقبة على الأمريكيين وغيرهم، لكنني أرى أن فلاديمير أعمق من هذا، وأنه يستعرض حالة نفسية متكاملة ويصفها بكل دقة وشاعرية.
لقد ذكرت أنني سأذكر نوع الكبت الذي مارسه المجتمع على همبرت، وهو كبت ناتج عن صرامة القوانين التي تعاقب الشاذين أمثاله بالسجن، هذه الصرامة التي ظل يحاربها حتى النهاية، فما تكون نهاية الرواية التي يبدو فيها همبرت منتشيا بقيادة السيارة في الاتجاه غير القانوني إلا حلا لأزمته مع هذا الكبت؟ إنه يشكو واصفا الحضارة التي يرزح تحت قسوتها ويمتعض قائلا: "حضارة تسمح لرجل في الخامسة والعشرين أن يغازل فتاة في السادسة عشرة من عمرها ولكنها لا تسمح له بمغازلة فتاة في الثانية عشرة من عمرها".
وإذا عدنا إلى رأينا نحن في همبرت، لا رأيه هو، نجده كما قلنا أنانيا عديم الشفقة callous لا يعطي أهمية لعذاب الآخرين وحياتهم عندما يريد أن يسعد ويرتاح، ويصور فلاديمير هذه القسوة تصويرا بديعا عندما يصف بدقة قصة طلاقه من (فاليريا)، وكيف أنه لم يأبه بشيء، كأنما كل ما فيه من غيرة وأخلاق ورجولة قد ذاب وتلاشى.
بعد الطلاق يسافر إلى أمريكا كما ذكرنا، والأحداث من سفره إلى أمريكا حتى عودته من القطب الشمالي لا تتعلق بموضوعنا إلا في موقف واحد، وهو دخوله إلى المصحة النفسية لسبب مجهول مرتين، ولكنني عثرت بعد محاولات على تصريح يبدو نافعا في هذا السياق، وهو قوله واصفا ألمه: "... شعور بالسويداء مشفوع بشعور كان يوحي لي بأنني مضطهد"، وربما كانت هذه هي كل حالاته التي ذهب بسببها إلى المصحات، الاضطهاد أو جنون الشك Paranoia والسويداء (لا أدري ما يقصد المترجم بهذه الكلمة، ولكنني أتوقع أنه قصد السوداوية أو الاكتئاب Depression وهو توقع قريب ومحتمل).
2 التعليقات:
أنهيت قراءة التحليلات بأجزاءها الثلاث. تحليل عميق ودقيق.
أقدر لك صبرك على طول التحليل!
شكرا لينا، ومرحبا بك في المدونة.
إرسال تعليق