"الحب يضيع الوقت، الوقت يضيع الحب"، ألمس نوعا من القرابة بين هذا المثل السائر واللوحة في الأعلى للرسام الروسي Andrey Remnev، لست ماهرا في قراءة اللوحات الفنية، ولكنني أستطيع أن أشعر بهذه الوحدة بين المشهد المصوَّر والمثل، وسواء كان المثل فرنسيا، أو للمسرحي اليوناني يوربيديس، أو من الأمثال التي لا يعرف أصلها بسبب شهرتها الواسعة، فهو يتناول مشكلة قديمة من مشكلات الإنسان؛ الحب والوقت. فالإنسان أدرك هذه المشكلة بلا شك في البداية، عندما كان يدرك وجوده في مجتمع صغير، ويكوِّن علاقاته، ويحاول أن يفهم طبيعتها وكيف تبدأ ولِمَ تنتهي، وهو لم يزل محاوِلا وسيظل على حاله لا يهتدي إلا إلى أطراف تفسيرات وحلول ليست كافية لتغيير الواقع الذي لا بد منه؛ والسبب ربما يعود إلى فهمه للحب كشعور مجرَّد لا يمكن إسقاطه على معنى محدد، فقد رأى أن هذا الشعور هو دافع الحياة، وسبب السعادة، وغايته التي لا تعدلها غاية، فراح يصنع له القصائد والقصص والأساطير والأغاني الشعبية والآلهة، وراح يعطيه المعاني والفلسفات، وراح يمجِّده ويعلق عليه كل آماله، لكنه استنتج أنه أخطأ، وبعد وقت طويل جدا استنتج هذا.
فما الحب إذن؟ هل هو حقا شعور مقدَّس وغامض يسيِّرنا ويتحكم بنا؟ أم هو حالة نفسية مؤقتة؟ أم هو انفعالات مادية؟ أم مجرد حيلة تطوُّرية للجمع بين الجنسين للغاية الوحيدة من وجودهما؛ البقاء؟
كما ترون، لو شئنا أن نناقش كل هذا سنحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت، ونحن -تقريبا- في غنى عن نقاش كهذا، فالناس على مذاهبهم لم يتركوا فيه صغيرة ولا كبيرة، فكتبوا فيه الأدب، وقدموا فيه البحوث العلمية، مع أنهم لم يستكملوا معاناتهم الأولى البدائية، ولم يتخلصوا من صراع الحب والوقت فيهم.
الأخوان رحباني من الفنانين العرب الذين اهتموا بهذا الصراع في أعمالهم الموسيقية، وتتبعوه في كل حالاته، فمرة يعود أحد المحبين متذكرا حبه القديم يتساءل: "كيفك انت؟"، ومرة تشتاق المحبَّة البعيدة عن حبيبها المسافر فتطمئنه بأنها على عهدها معه محافظة على حبه ووفية له بقولها: "يا قلبي لا تتعب قلبك"، ومرة يمل أحدهما من الآخر فيتعجب: "مش كاين هيك تكون"، ومرة تنقطع أخبار أحدهما فيبدأ الآخر بالظن والتفكير اليائس المتشائم: "يا ترى نسينا". فهما مهتمان بتجسيد هذا الصراع في مسرحهم وفي ألحانهم؛ لأنه صراع لا يخلو منه مجتمع، ولا تبرأ منه قصة حب مهما كانت، لأن من طبيعة الأشياء أنها تتغير وتخضع لسلطان الزمان والمكان، ومن طبيعة الإنسان أنه يتفاعل مع الوقت مشتاقا حينا، ومتألما حينا آخر. واهتمام الأخوين رحباني بمشكلة الحب والوقت تكاد تلمسه في معظم أعمالهم، لكنني ذكرت هذه الأمثلة الأربعة لعلاقتها بالمشكلة من حيث أريد أن أناقشها، هذه العلاقة التي يشرحها المثل، وربما لا تقصِّر اللوحة في شرحها. وفي الحقيقة، تعمدت ذكر هذه الأمثلة بالتحديد لأنها تمثل استجابات الإنسان المختلفة التي تصل إلى قمة التفاؤل في أغنية "يا قلبي لا تتعب قلبك"، وإلى قمة اليأس في أغنية "يا ترى نسينا"، وتتراوح بين الرغبة في التغيير والخوف منه في أغنية "مش كاين هيك تكون"، وتحاول أن تحل المشكلة بالعودة والسؤال بغض النظر عن التفاصيل التي تغيرت في أغنية "كيفك انت؟".
هكذا استجاب الإنسان لعامل الزمن في حياته العاطفية، فاخترع الهدايا، وطور الملابس والعطور، وصنع المجوهرات، وكتب الرسائل والذكريات، وسمى المباني والمدن والأشياء الأخرى باسم أحبابه... كل هذا ليبقى خالدا فيهم، ويبقوا خالدين فيه، ولينجوا جميعا من بطش الزمان والمكان.
"حبو بعضن" أغنية أخرى لحنها زياد رحباني لأمه السيدة فيروز، وهي الأغنية التي لا تحاول أن تقدم حلولا، ولا أن تصف مشاعر، بل تريد أن تحاكم الوقت مباشرة بمطلعها الرائع "بيقولوا الحب بيقتل الوقت، بيقولوا الوقت بيقتل الحب". إذن فنحن أمام القضية الفلسفية كما هي، في سياق قصة حب يبدو أنها انتهت بالمأساة، وكان الوقت هو الشبح الملازم لها، فالقصة بدأت "تحت الشتي، بأول شتي حبوا بعضن"، والقصة انتهت "بتاني شتي، تحت الشتي تركوا بعضن"، هذا كل شيء، يبدأ الحب في جو ممطر، فيكون المطر رمزا للحياة والري والخضرة والإثمار، ثم ينتهي في المطر التالي، فيكون المطر نذير شؤم وخوف وفراق طويل... والمدة بين المطر الأول والذي بعده قد تطول أو تقصر، لكن سلطان الوقت بلا شك هو المسؤول.
الأغنية قصيرة جدا، وبسيطة، فهي لا تزيد على خمسة مقاطع توضح كل المشكلة، ثم تنتهي كما بدأت. وإذا شئنا أن نستطرد قليلا في العجب من روعة الأداء الموسيقي ومحاكاته للمشاعر التي يمكن أن يثيرها هذا المثل المجهول الغامض، فالسيدة تبدأ بنبرة صوت منكرة معترضة "بيقولوا الحب بيقتل الوقت..." وكأنها ليست هي التي تقول، وكأن الذين يقولون هذا أخطؤوا، لكنها تذكره لسبب مجهول، أو ربما لتحاول حل المشكلة، ثم ترفع صوتها فتحس أنت بأنها وجدت الحل، واكتشفت الوسيلة التي ستخلصها وحبيبها من هذا القدر أو المصير أو القانون الذي لا يسلم منه أحد "يا حبيبي، تعا تا نروح قبل الوقت وقبل الحب"، وهي بهذا لا تقدم شيئا جديدا، فهي تثبت له أنها فشلت إلى هذا الحد، كيف لا؟ وهي تقول "يا حبيبي" ثم تقول "قبل الحب"، وهي تقول "قبل" الوقت".. فنداؤها هو الحب الذي تريد أن تهرب منه، و"قبل" هو الوقت الذي لم يزل يطاردها حتى في كلامها.
وإذا عدنا إلى سبب كل هذه التراجيديا، فإن سببها عادي ولا تكاد تخلو منه علاقة عاطفية، بل يجب ألا تخلو منه علاقة عاطفية، فكل ما في الأمر أن الحبيبين افترقا لأسباب كثيرة، هي بالتحديد "كلمة زغيرة" أنهت كل شيء، لكننا لم نعرف بعدُ كم هي المدة بين البداية والنهاية، أو بين "الشتي" الأول و "الشتي" الثاني. هل هي طويلة أم قصيرة؟ والواضح أنها طويلة وكثيرة الأحداث، فهي تصف له يأسها وحزنها على حبهما الكبير كيف انتهى بكلمة صغيرة تافهة "ما زالا قصص كبيرة، وليالي سهر وغيرة، تخلص بكلمة زغيرة"، فهي قصص وليست قصة واحدة، وهي ليال وليست ليلة أو ليلتين، لكن كلمة واحدة أوقفت هذا الاشتعال وأطفأته. فما تكون هذه الكلمة؟
لا تشرح لنا الأغنية ما هي هذه الكلمة، أو ما يجب أن تكون هذه الكلمة، فهي لا تقدم غير هذه الخمسة مقاطع، وتبدأها وتنهيها باستنكار "بيقولوا الحب..." واقتراح "يا حبيبي..."، ولكن يسهل استنتاج ماهية هذه الكلمة، فما دامت صغيرة فهي يجب أن تكون قوية بما يكفي لتنهي حبا عاش قصصا كثيرة وليال طويلة، يمكن أن تكون كلمة من هذه الكلمات التي نسمعها في نهايات الأفلام، أو في حوارات القصص والروايات، كلمة مبهمة تُفسَّر خطأ، ويبدو أن قائل هذه الكلمة هو الطرف الذكوري من القصة، فهو غائب بلا ملامح ولا تفاصيل، لكنه حاضر بكلمته الصغيرة التي أنهت كل شيء.
على كل حال، لا يهم أن نعرف ما هي هذه الكلمة بالتحديد، والأكثر أهمية هو أن نلمس هذه القدرة الفنية على لمس موضوع اجتماعي فلسفي بكل هذه البساطة وكل هذا الإيجاز!
المشكلة لا تنتهي بين الحب والوقت، والصراع لا ينتهي بين المحب والوقت، فحلاوة الحب ولذته إن لم تنته لأسباب خارجة عن القدرة والإرادة انتهت لأسباب يصنعها الإنسان نفسه، أو تصنعها طبيعته التي ربما ليس الحب الدائم العميق من صفاتها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق