19‏/05‏/2016

شَرَفُ المومِس: فيلم الطاحونة الحمراء




"أعظم شيء ستتعلمه أبدًا
هو أن تحب فحسب
وأن تكون محبوبا في المقابل".  

ماذا لو هاتفك صديق عزيز آخر الليل قائلا: "أرجوك، لقد مللت الحياة، لم أعد أعرف ما أريد منها وما تريد مني"؟ قد تهدئه بكلمات تختارها بحكمة، تقترح عليه سماع موسيقى خالصة أو ترشده إلى قراءة أحد الكتب الجيدة. لكن ماذا لو كان لا يستطيع سوى مشاهدة فيلم يسيل اللون الأزرق في لحظاته وتتصاعد خيوط الضباب من خلاله؟ أرجوك الآن أن تقترح عليه Moulin Rouge ثم تعود إلى النوم. 

هناك الكثير جدا من الأفلام التي نود أن يشاهدها جميع الناس، لسبب غامض قد يكون مجرد الانفعال النفساني لنهاية سينمائية مؤثرة أو قد يكون متعلقا بفلسفة القصة والحاجة إليها. فيلم "الطاحونة الحمراء" الذي أخرجه باز لورمان عام 2001 هو أحد الأفلام التي أود أن تشاهدوها جميعا. 

لن أقص عليكم قصته ولن أرهقكم بالتفاصيل التقنية والجوائز والإيرادات بل سأسمح لكم بالولوج إلى ذاكرتي...
أنتم الآن تسبحون في أعصابي الصفراء، مجموعة من المشروعات المؤجلة ثم آلة كاتبة عتيقة ثم عبارة  "the greatest thing" التي تتكرر كتهويدة بصوت مغني الروك ديفيد بوي.



أظن أن حلمي وحلمكم جميعا هو أن نحصل على هذا الشيء العظيم الذي -بالتأكيد- لن نتفق عليه! لكنه حلمنا ونحن أحرار في تشكيله ومتابعته حتى النهاية. تتوغلون أكثر في ذاكرتي فتتبدى لأعينكم المتلفِّتة أوراق كثيرة تتساقط بترتيب ثم تتبعثر قبل أن تحط على القاع. أفكارٌ وقصص وأشخاص وعناوين أعالجها في صمت. ورقة لاصقة كُتب عليها: "لا توجد شبكة إنترنت لمدة مجهولة". جهاز لابتوب ومجلد أفلام شوهدت من قبل. بعض الأفلام التي لم تكتمل. "الطاحونة الحمراء". 

تنطحنون برقَّة وهدوء مع أكوام تفاصيلكم وأوراقكم وأفكاركم. تتنازلون عن أترافكم وتبدؤون بتجربة السفر إلى باريس لمعايشة الثورة البوهيمية وتشاركون في كتابة مسرحية ضرورية. 

"يجب أن يستمر العرض" يسير شريطٌ أحمر يحذركم! فيجب أن تصبروا حتى ينتهي العرض، يجب أن تبقوا في ذاكرتي. 
الآن تقابلكم سيالة عصبية أنيقة الهندام وتطلب منكم بلطف أن توقعوا على تحويل كل إمكاناتكم في الحياة إلى عرض مسرحي تنتظره الملايين. "يجب أن يستمر العرض" تقولون لأنفسكم ثم تبدأون التفكير: سيكون مخيبا ومهينا أن نفشل في تقديم العرض. وداعا للكسل. سنوجه كل اهتماماتنا وقوانا المادية والروحية ليكون العرض عظيما. 

تحذركم السيالة العصبية: "لن تغادروا خشبة المسرح. هل تفهمون؟ إنه عرضكم الأخير. فرصتكم الأخيرة لإظهار أنفسكم الجميلة للعالم. هذه هي مسرحية الحياة". 
موافقون مبدئيا...

تكرر السيالة: "في سبيل هذا العرض ستفرحون وتألمون، ستقدرون وتعجزون، ستحصلون وتفقدون".
موافقون... 

تنتشرون، تتوزع حواسكم في فضاء غير مرتب، مغمورين ولا قيمة لكم ما دمتم وحيدين. أنتم بحاجة إلى تعلم شيء، إلى دليلٍ يوجهكم إلى عرضٍ أفضل. 

قال الكاتب الغنائي إيدين آهبيز ذات يوم في 1947: "أعظم شيء ستتعلمه أبدًا
هو أن تحب فحسب
وأن تكون محبوبا في المقابل".  

لن تتعلموا شيئا في الفيزياء طبعا، لكن إن كانت الفيزياء حبَّكم فيجب أن تفعلوا. 
الكثير من المتعة والحيرة، دماغي العامل بدأب يمدكم بالدفء ويقاسمكم محصول السُّكر الذي وصله من الشاي الذي تدفق في أمعائي قبل دقائق. أنتم مستنفرون وتائهون. ما هو الحب الذي يجب أن يكون أعظم ما نتعلمه؟ 

القراء الذين لا تستهويهم الرومانسية، إنني أطمئنكم فهذا الحب ليس شخصا دائما. قد يكون أي شيء تحبونه حقا، لكن عليكم أن تفهموا كلام السيد آهبيز جيدا. "وأن تكون محبوبا في المقابل". 

الآنسة المومِس (ساتين) ليست خاطئة. لا تتأثروا جدا بلقبها الجارح "مومس" فهي فكرة في النهاية، والفكرة التي تملك جمال ساتين وخفتها وحيويتها ستكون ملك الجميع، ومن يمنح أكثر يستحق أكثر. 

تقول الفكرة المتراقصة على ارتفاع الأيادي: "قبلة على اليد قد تكون مناسبة جدا، لكن الجواهرهي أفضل صديق للفتاة". هذه الكلمات يمكن أن تُفهم بطريقة أخرى غير طريقة فتيات الملاهي البوهيميات. القُبلة هي أن نعيش جزءا من الحياة، جزءا حقيرا مهما طال لأنه لم يزل جزءا، أما الجواهر فهي أرواحنا التي ندفعها لمومسات الأفكار لنحظى بالعيش معهن. 


الأفكار تريد الأرواح. بعضٌ من الروح لا يستهويها هي التي تنادي بأعلى نعومتها: "هلمُّوا أيها الفتيان.. نالوا مني". 
كلكم ستتخلصون من الحيرة وتذوبون في مجتمعكم الجديد ثم تحبون (ساتين) الفاتنة. بعضكم لا يملك شيئا لكنه متحمس للعطاء مثل (كريستيان) وبعضكم يملك كل شيء لكنه كسول مثل (الدوق مونروث). 

نداااء.. سيالة عصبية تنادي: "فليخرج كل أشباه مونروث من ذاكرة رمزي وليبق المتحمسون ولو كانوا مُعدَمين". 
في عرض الحياة الأخير ستكونون في كامل بهجتكم وجلالكم، ستقدمون إيمانكم القوي بحبكم، لكن هل ستكونون محبوبين؟ هل تستحقون أن تكونوا محبوبين؟

اقتضت المسرحية بأسلوب مثير وكوميدي أن يكون هناك (ماهاراجا)، الماهاراجا هو العظيم الذي يطلب العظيم. أو باختصار هو الرجل الفارغ في الحبكة؛ لأن العظيم لا يطلب عظيما وهو العظيم. ستواجهون الكثيرين أمثال (ماهاراجا) في محاولاتكم لتقديم عروضكم وحتى أثناء تقديم العرض. يجب أن تنجذب (ساتين) إلى الماهاراجا، لكن هناك عازف غيتار مسكينا لا يُضاهى بالماهاراجا سيحاول جذب فكرته الجذابة. 

لمن ستكون الفكرة؟ منطقيا ستمنح جاذبيتها وانجذابها لعازف الغيتار، واقتصاديا وبأسلوب شاعري ستمنح جاذبيتها وانجذابها لعازف الغيتار!

لا تكونوا ملوكا عظماء، فالأشياء العظيمة لن تنجذب إليكم. 
ما الذي يجب أن يحدث؟ تذكروا تحذير السيالة العصبية. ستحصلون وتفقدون. وإذا افترضنا أنكم كلكم وقَّعتم على دور عازف الغيتار كقرار سليم لعرضكم الأخير، فالملوك العظام سيأتون لا محالة ويرغمون الأفكار على الانصياع والتضرع والانجذاب التام إليهم. وإذا كنتم كلكم عازفي غيتار مساكين فإن الفراغ سيصنع من نفسه ملكا.. ملوكا عظام. 

اختار (كريستيان) حُب (ساتين)، وبما أن مصيرهما كان تحت رحمة المسرحية قرر أن يحبها بإخلاص وصبر. أي قرر أن يدفع لها جواهره حين كان الآخرون يبحثون عن ثمن قُبلة. 
في الحياة الكثير من هذا. أنتم مشغوفون حبا وتضحية وتلذذا وعذابا بأفكاركم والآخرون يمسُّونها مسًّا خفيفا ثم يتغيبون في العرض الأخير. 

تذكروا أن "الملايين" الذين ذكرتهم في البداية لا يعبأون باللقطات السريعة، لا يصفقون وينشدهون للقُبل. فإذا كنتم تعتقدون أن حُبَّكم المؤقت والبخس لفكرة ما سيشفع لكم عندهم فسينتهي العرض في غيابكم وستبقون أبدا من مُمارسي القُبل خلف الكواليس. 


يبدأ الدوق مونروث الإنفاق بسخاء لإنشاء مسرحٍ في الطاحونة الحمراء. أراد هو أن تكون ساتين له، تصوروا، ساتين بلا مقابل، هذا يحط من قدرها وينزلها من رتبة مومس إلى جارية. لكن "العرض يجب أن يستمر" وأنتم لن تسألوا أسئلة تافهة ذات يوم مثل: لمن هذه الفكرة؟ هل هي حق قانوني لأحدهم؟ 

أصيبت ساتين بالسُل الرئوي. الفكرة الآن ملطخة بالفناء إن لم ينعشها (كريستيان) منكم. لقد قبَّلها الآخرون حتى نقلوا إليها عدوى الموت. هي الآن تتذبذب. وبأمر من مدير المسرح ستنجذب إلى الدوق وستترككم؛ أنتم عازفي الغيتار المساكين. 

هل تصاب الأفكار بالسُّل الرئوي؟ نعم، وبالإيدز والطاعون والسفلس. هذه الأمراض هي الأساطير الذي يلصقها الناس بفكرة ما. هناك، حولنا، الكثير من الأفكار المسلولة، لكن الضمان الطبي الذي يمكن أن أوفره لكم هو أن هذا النوع من السُّل غير معدٍ. 
استثناااء، السيالة العصبية تستثني: إلا عن طريق التقبيل! 

تعلم ساتين بأنها ستموت، وبيأسٍ قاسٍ تعرض عن محبوبها كريستيان خشية عليه من الموت على يد الدوق. هل تخافون الموت؟ فلتتذكروا أيضا أن الدوق كسائر الملوك العظام فارغ لا يعطي حتى الموت. 

موسيقى حزينة تنبض في الذاكرة، ساتين تغني وبرودة الموت تدفعها إلى إنهاء عرضها: "في الداخل، قلبي يتحطم. زينتي قد تتساقط. لكن ابتسامتي لم تزل باقية". 

يستمر العرض...
مشاهد راقصة وأخرى دامية ستشاهدونها على جدران أعصابي. يحمل الفراغ مسدسا ويوجهه إلى كريستيان لكنه يطلق موتا فارغا لا طاقة له بقهر امتلاء روحه الصادقة. ولنسبة الفضل إلى صاحبه، فقد قام أصدقاء كريستيان بمجهود بطولي ليعينوه على إنهاء عرضه الأخير.. فاستحقوا بهذا النبل خلودهم في قصته. 

دموع.. دموع.. رائحة عطر كريزي مودي.. دموع تغمركم في نهاية الذاكرة ثم تسمعون صوتي يعيد إليكم ما قالته الفكرةُ لعاشقها: 
"يجب أن تستمروا
لديكم الكثير لتمنحوه
احكوا قصصكم، هيا فلتعِدوني
بهذه الطريقة
سأظل معكم دائما". 


* شكرا لمترجم الأفلام الرائع أشرف عبد الجليل
* شكرا لشركة الاتصالات السعودية على قطع شبكة الإنترنت

2 التعليقات:

شكرا جزيلا لك.
استمتعت كثيرا بوصفك الجميل لأحداث الفيلم.
لكن استشكل عليّ فهم المقصود من "السيالة العصبية" التي تكرّرت مرارا في الموضوع.
عادة لا تشدّني الأفلام التي يغلب عليها الرقص. اشعر ان وظيفتها هي مداعبة غرائز وجيوب الجمهور. لكن يبدو أن في هذا الفيلم فكرا وعمقا.
تحيّاتي لك.
بروميثيوس

شكرا بروميثيوس على الحضور
منذ مدة لم تزرنا :)
الرقص في هذا الفيلم له وظيفة أخرى، ربما هي الحوار مع الحياة
السيالة العصبية nerve impulse هي المعلومات التي تنتقل في الأعصاب من/إلى الخارج
لا تنس أنك كنت تتجول داخل أعصابي

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.