29‏/08‏/2015

أخلاق للبيع


فيليب دي شامبين، Vanitas
إنه إنسان مسكين. حياته في غاية الرتابة. لا قيمة له لذاته، بل في كمية الأوراق التي يحملها كل صباح من مكتب المدير إلى مكتبه الصغير. يصح أن نطلق عليه اسم "نكرة" لولا أن اسمه الحقيقي هو "مسعود أبو السعود".وليس له من اسمه إلا حظ النداء.
يتعب مسعود من تملق الناس حوله، ويأوي إلى جذع شجرة ليحظى بوقت صادق يشعر فيه بوجوده وقيمته. وفي لحظة يأسه واعتراضه يلمح منزلا بعيدا، فيركض إليه وقد ظن لأسباب مجهولة أن حياته ستتغير.
"أخلاق للبيع" كتبت هذه العبارة فوق باب المنزل، فأوحت بأنه متجر لبيع شيء ما لا يهتم به الناس كثيرا. يدخل مسعود، ويلتقي بشيخ منشرح الوجه خاشع الخطوات، ثم يعرف منه أنه بائع "أخلاق"...

لطالما كانت قضية الأخلاق شاغلة الإنسان، وبالإضافة إلى مسائل الحياة والموت وما بعد الموت، تشكل الأخلاق عقدة لا تنفك تزداد تشابكا وتعقيدا إلى يومنا هذا. أما في يومنا هذا، فالإنسان بكل خوف يتناول هذه القضية متسائلا ومجيبا وصامتا لغاية يجهلها. لعله الغموض الذي يحيط بها، أو الخوف. فكأن الأخلاق مخلوق أسطوري متوحش سيكون لطيفا أن نصمت عن وصفه.
نعيش كل يوم ضياعا أخلاقيا في أكثر حالاتنا، بدءا بشريط أخبار التاسعة صباحا، إلى أصوات تفجيرات التاسعة ليلا. وعندما نأوي إلى غرف نومنا نسأل بكل جدية: لماذا لا ينتهي كل هذا؟! ولكن النعاس يغلبنا فننكفئ نائمين، ونترك مهمة الإجابة لباحثٍ ما سيفوز بجائزة عالمية على ورقة بحثية يستنتج فيها أن الإنسان بطبيعته مخلوق "لا أخلاقي". وبالمناسبة، هذه هي بداية ونهاية فيلم "أرض النفاق" الذي نحوم حوله. الفيلم الذي أخرجه فطين عبد الوهاب عام 1968 مستندا إلى رواية بنفس الاسم ليوسف السباعي.
في الفيلم، يقوم الممثل الرائع فؤاد المهندس بتمثيل دورنا نحن، عندما نعيش في مجتمع عبثي، ونحاول أن نشاركه عبثيته، بعد أن اكتشف هو أن المسكنة والطيبة لم تنفعه. وكما قد نفعل نحن، سأل مسعود ذلك الشيخ الوقور أن يبيعه أخلاقا دنيئة كالخسَّة والنذالة وقلة الأدب فأجابه بأنها نفدت. فما الذي بقي كاسدا؟ هذا السؤال الذي نطرحه مندهشين، فيجيب الشيخ بأن "الصبر" و"الكرم" و"الشجاعة" هي ما تبقى. يقرر مسعود أن يأخذ "حبوب الشجاعة" ويخرج.
في الحي، يتغير مسعود تماما، فيروح يضرب هنا وهناك من يعترض طريقه، وكذا في البيت، وكذا في المؤسسة التي يعمل بها. لكنه يكتشف بعد مدة أن الشجاعة لم تجلب له إلا كل الشر، فزوجته تخاف منه وتطلب الطلاق، وأهل الحي الذين ضربهم أوصلوه إلى السجن، ومديره يهدده بالطرد.
أحداث الفيلم تسير على هذا المنوال، كلما بلع مسعود "حبة أخلاق" وعطس فهذا يعني أن مفعولها قد بدأ، ويبقى لأيام يتخلَّق بالحبَّة التي بلعها، سواء أكانت "النفاق" أو "الصراحة"، وبعد أن ينتهي مفعول كل خُلُق يندم مسعود ويعود إلى الشيخ الذي يكون خيِّرا مرة وشريرا مرة أخرى. مسعود هو نحن، وهذا الشيخ هو ثقافتنا. إنها هي ما يملي علينا أخلاقنا، ثقافتنا بكل أشكالها الكثيرة والمختلفة.

هل الأخلاق صفات فطرية نولد بها؟ أم تعليمات نكتسبها من الحياة؟ أم هي شبح كما يرى بعض الفلاسفة؟ أم هي عبادة كما يرى المتدينون؟ ما هي بالضبط؟ لم تبور تجارة أخلاق كالكرم والصدق بينما تنفد بضاعة النفاق واللؤم؟
أدرك أن أسئلتي قديمة ومبتذلة، وأدرك أن الإجابة عليها مهما كانت أنيقة ومقنعة ستبقى محاولة نظرية باردة، وتبقى الحقيقة غائبة مغيَّبة.

كلنا ذلك المسعود الذي جرب أن يكون صريحا كما جرب أن يكون منافقا، فما الذي بوسعنا أن نقدمه لموضوع الأخلاق ولو كان نظريا باردا؟ ما الذي يمكن أن ندلي به في محاكمة الواقع الذي نعيشه؟ في مكان ما تنعم عائلة بكل الراحة والطمأنينة، وعلى بعد أمتار منها تقاسي عائلة أخرى كل ما نستطيع تخيله من العذاب والهوان؟ هل الأخلاق وراء كل هذا؟

إن مسعود نفسه يتناول -مثلنا- الأخلاق بلا أخلاقية، إنه يسرق حبات الأخلاق من الشيخ الذي يعلم كل شيء، إنه يريد أن تكون له أخلاق وهو يغوص في لا أخلاقيته. ونحن، عندما نفلسف الفقر إنما نفلسفه بعد وجبة غداء دسمة، ونتوق إلى شرب شيء دافئ يلهمنا لنكتب عن البرد والغربة. لكن من يلومنا؟

في النهاية، بعد أن ييأس مسعود أبو السعود من مجتمعه الذي اكتشف -بعد عجزه عن أن يكون مثله- أنه منافق، لمح في لحظة حاسمة كيسا قد دُسَّت فيه حبوب كثيرة وكتب عليه "خلاصة الأخلاق"، فسرقه ونثر ما فيه من أخلاق جميلة في مجرى النهر الذي يشرب منه كل الناس... وما هي إلا ساعات حتى صار مجتمع مسعود "يوتوبيا" أفلاطونية، يسير على الطرقات وادعا ونظيفا كمجتمع لا يمكن أن يكون إنسانيا. لاحظ مسعود والشيخ كل هذا، إلا أننا انفصلنا عنهم، فأين يمكن أن نلاحظ مجتمعا إنسانيا بهذه الصفات؟
ولكي يذكرنا يوسف السباعي بأن الأخلاق، وإن حلَّت في مجتمع ما، تغادر بسرعة، قدَّر أن ينتهي مفعول الحبوب بعد أن "عطس" الجميع وصاروا صالحين.
عاد الرجال في حي مسعود إلى العدوانية، وعادت زوجته إلى تسلُّطها، وعاد مسعود إلى محل بيع الأخلاق فوجده مغلقا، وقرأ بجانبه يافطة تقول: "مغلق لعدم وجود أخلاق".

أفلح يوسف السباعي في طرح القضية، ونوَّع فيها تنويعا يدركه مشاهدو الفيلم، لكنه كان متشائما إلى حد بعيد، نستطيع أن نرى هذا في النهاية بالتحديد. وأيضا، عنوان الرواية لا يجود بالكثير في توضيح محتواها، فلو كان "أخلاق للبيع" لكان أكثر تمردا وإغراء.

لكن السؤال الذي يبقى الأهم بعد كل هذا هو: هل حقا لا توجد أخلاق؟ وإذا أردنا أن نجيب فعلى ماذا نعتمد في إجابتنا؟ على كتبنا المقدسة والعلمية؟ أم على مشاهداتنا الواقعية؟ أم على الافتراض التي لا يقدم شيئا. وهبوا أننا حاولنا جاهدين أن نجيب على هذا السؤال، فما جدوى الإجابة؟ وما نفعها المباشر لإنسان هذا العصر؟

أظن أن اللوحة في الأعلى لدي شامبين تقدم وصفا صامتا لما كنا نخوض فيه، وهي تنتمي إلى مجموعة لوحات كثيرة أخرى اشتهرت في القرن السابع عشر في هولندا، حيث يصور الرسامون الجزء الجمادي والعبثي من الوجود، فترى جماجم بشرية في كل الأحوال داخلة في كل تفاصيل الحياة، وفي هذه اللوحة نرى جمجمة إنسان تتوسط ساعة رملية وزهرة لوتس، وبهذا تبدو هي الأبشع، فإلى جانب الوقت والجمال اللذين يكونان معظم تفاصيل حياتنا، ترمز الجمجمة إلى العبثية والرعب والبدائية.. ترمز إلى الحقيقة التي تنقشع بعد أن يموت هذا الكائن الجمالي؛ أنه كان يتكلف الرقة تكلفا، وأنه في جوهره وحشي ومخيف.




3 التعليقات:

بيع بضاعة مكتوب عليها الكساد = خسارة أكيدة "أقولها مع مزيد الأسف"!

أزال المؤلف هذا التعليق.

الأخلاق ليست شيئا يباع أو يشترى
وإدراكها بهذه الطريقة يفتح بابا للدجل والتلاعب بالناس
أدرك "مسعود" هذا في النهاية

الشكر لك يا هيثم، نوَّرت المدونة.

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.