28‏/12‏/2015

عاكف: قصة قصيرة (1)





سألتَني يا صديقي عن حالي، إنني لست بخير، شكرا لك على حرصك واهتمامك، لكنني -ولتعذرني- لا أذكر أنني كنت بخير منذ أكثر من ثلاثين سنة. لعلك الآن تبتسم وتتوقع أن تقرأ شطحة من شطحاتي عندما يشتد علي برد الليل، بيد أني لا قول إلا الحق، ولك وحدك أقوله لأنك بعيد جدا.
جملة اعتراضية: أشكر أيضا هذا البريد الأمين الذي يوصل رسائلي إليك كما هي بعد أن أكتبها مباشرة، وأرجو أن تعثر على رسالتي هذه وتقرأها في أقرب وقت، وأن تكتمها.. أسألك بشرف صداقة الفن التي تجمعنا.
أنت تبدأ رسائلك دائما بالسؤال عن حالي، فعن أي حال تسأل؟ إن أحوالي كثيرة كما تعلم، فهل سؤالك عن حال عملي؟ إنه مستمر باستمرار ضرورة العيش، أعود كل مساء من الجامعة، وأعرض وجهي على المرآة، ولن يصعب عليك أن تتنبأ بما آلت إليه ملامحي من الذبول والصُّفرة. ألمس شعري فترتعش يداي فوق كومة من الشعر الأبيض الهش المبعثر. أحاول الكلام لأسمع صوتي فلا أسمع إلا عويل رجل جاوز الخمسين ولم يعد قادرا على تغيير أفكاره ومبادئه كما كان فيما مضى من الأيام.
أم تسألني عن حال صحتي؟ فإن صحتي جيدة لا يعيبها إلا بعض الأرق وانعدام شهوة الأكل. وليس هذا بالمقلق، فالحمد لله على الصحة.
أم تسألني عن حال قراءاتي وجولاتي الفنية؟ وهذا ما لن تحتاج إلى معرفته مني فقد أوشكت على إنهاء مجموعة من المجلدات حشوتها لك كتبا وصورا من رحلتي الأخيرة إلى بحيرة (ويندرمير) العجائبية، ستجد كل ما تحب معرفته عن حالي مع الفن.
أم تسألني كما يفعل الناس في هذه الأيام عن كل أحوالي مرة واحدة؟
أرجو أن تحدد في رسائلك الآتية بإذن الله ما تود السؤال عنه من أحوالي.
والآن سأروي لك كيف لا أكون بخير بعد كل هذا...
عندما كنت أراسلك للمرة الأولى -هل تذكر؟- قبل تسع سنوات، كان قد مضى على ذلك اليوم اثنان وعشرون عاما. أعني اليوم الذي لم أكن فيه غير طالب دراسات عليا يتنقل بين السعودية وبريطانيا ولا يعرف أكثر من هذا. كنت عاديا برغم الكتب التي قرأتها والأسفار التي قطعتها. ولم أكن أدري ما الكتابة وما الفن. كنت إذا حلمت تصورتُني أشغل كرسيا في جامعة محترمة وأدرس تلامذة مهندمين متفتحين طرائق البحث العلمي، أو تخيلت أن لي بيتا صغيرا هادئا يلهو فيه أطفال نظيفون أسمع ضجيجهم بينما أقرأ كتبي وأدون تعليقاتي راضيا بهذه الحياة مشوارا جميلا لا ينتهي، وإذا انتهى فيَّ فلن ينتهي في أطفالي وأطفالهم من بعدهم، أو بالغت في الحلم واستدعيت إلى البال رائحة الأنثى التي سأعشقها، فألقي عليها عشرات الأشباه من سمراوات الصحراء الصارمات اللائي يحترفن الشوق والصبر، ومن شقراوات الأفلام المائسات سريعات الاستجابة، ومن كل لون وطعم، مدفوعا بغريزة الحب وشهوة البقاء، وكنت بعد كل حلم أدرك حقيقة وحدتي وأستوحش الوجود ثم أعود إلى القراءة.
ولما كنت وقتها في السعودية، قررت أن أزور مسجد رسول الله كما أحب أن أفعل دائما، فاصطحبت أحد الأصدقاء وسافرنا إلى المدينة في أيام قيظ ولم نكن ننوي البقاء أكثر من يومين.
بعد أداء صلاة العصر في اليوم الأول، خرجنا من المسجد قاصدين الفندق، ولمَّا يجف ماء الوضوء في أذرعنا ووجوهنا، وأرواحنا جذلى بما غمرها من نسيم العهد الأول وخطى أبي القاسم عليه الصلاة والسلام وله الحب. استقبلت الساحة البيضاء، ماشيا بوقار إلى جانب صديقي، أتلو بعض الأوراد اليومية وأتأمل خشوع الخارجين والداخلين، وسحنات الباعة المتجولين والواقفين والقاعدين، لكنني ما إن تقدمت بضعة أمتار حتى استوقفتني حذَّاءةٌ تحصي المارَّة بملل وتحرك عينيها تجذبهم إليها بغير نداء.
طلب مني صديقي أن أتورَّع وأغض بصري، لكن لعمري أي نصح كان يجدي ساعتها وأنا قد صرت في عداد الصرعى؟!
توقفت كمن احتار أي طريق يسلك، أو كمن نسي كيف يمشي، وأعدت النظر إليها فما رأيت إلا أنثى حلوة -أحلى من أي حلو- تفترش الأرض بالقرب من أمها العجوز المُقعدة وترتب أزواج الأحذية بيدين كأنهما قطعتان من رخام أبيض معروقٍ بخطوط خُضْر.
عجِب صديقي من تنسُّكي وتقواي داخل المسجد ثم من طيشي وفسوقي خارجه. كان يمسك بيدي قائلا إنني قد تجاوزت "النظرة الأولى" بألف نظرة محرمة. فلم يكن يلمس إلا جلمدا تنخر فيه حشرات الموت، ولم يكن يخاطب إلا رجلا آخر غير الذي عرفه.
كنت يا صديقي ساعتها مخطوفًا من الزمن، ولا أتحرج الآن إن وصفت لك طائرين أبيضين خرجا من عينين سوداوين لامعتين وهربا بي بعيدا، حيث خلاخل الذهب تجلجل في سوقِ المدنيات الأمويات، و"ابن صيَّاد"* يحرك أوتاره ويتغنى بأبيات من شعر البعد والفراق.
دنوت منها، لا أنوي شراء حذاء جديد، بل أن أجرب كل بضاعتها لأبقى قريبا منها ما شاء الله. دنوت ودنا مع صديقي ظانًّا أنه بكلامه يستطيع أن يثنيني عما أنا مقبل عليه. وضعت يدي على حذاء وسألتها عن ثمنه، فأجابت، ثم وضعته على آخر وآخر وآخر.. أسأل وتجيب كأنني لا أسألها إلا عن لوعة الغرام التي تذيب عظامي، وكأنها لا تجيب إلا عن سوء حالها وقلة حيلتها.
عينان لذيذتان كأنهما كأسان زجاجيان مُلئا عسلا مصفَّى، ورموش مقوسة إلى الأعلى تهبط وتعلو بخفَر، ومن فُرجة البرقع لمع بياض أنفها وما تحت عينيها، وأنا ينبض بين أضلاعي قلب كأن به تنِّينا ثائرا يمجُّ ناره في وجه كل من يعترضه.
كان الناس يتحلقون حولهما ويشترون ثم يبتعدون، إلا أنا فكنت قد جثوت على ركبتيَّ وانفردت بها أسائلها عن ثمن هذا وهذا، وقد أجرؤ على سؤالها عن طريق الوصول إلى ما خطر ببالي من الأمكنة، فتارة تصف لي الطريق إلى البقيع، وتارة تعتذر عن جهلها بالطريق إلى مكتبة من المكتبات أو سوق من الأسواق، وسأحدِّثك -ولا حرج- عن ابتسامتها الناعمة عندما كانت تحتار في اختيار الكلمات، فأرى فمها يتحرك كأنه شمس تخترق الغيم، وأرى عينيها تنكمشان ثم تتفتحان بما فيهما من الحياة والنجاة.
كان نوع بضاعتها لا يقتضي أن أطيل في الاختيار أكثر مما فعلت، وظل صديقي يهددني بالمغادرة ويحذرني من نزغ الشيطان، ويا حَبَّ ويا عِشْقَذا الشيطان الذي يجمع بيني وبينها، لكن ما كان أهون عذاب الحريق عندي وأنا أتعذب بالإقصاء عن روعة روحها وحنان يديها اللتين تتحركان على أزواج الأحذية كفراشتين خالدتين تحومان حول نور أبدي.
لما طال جلوسي قبالتها وأحسست منها تحرجا تناولت حذاءين لي ولصديقي وأعطيتها ثمنهما، فتكلمت لحظة مع أمها ثم عادت إلينا طالبة أوراقا نقدية من فئة أقل من الخمسمائة. أدخل صديقي يده في جيبه فمنعته وقلت لها: "ليس معنا إلا هذه الورقة، لا بأس". ومن الجيد أنني لم أقل لها: "خذيها" فتشعر بأننا نتصدق عليها فتغضب. ساعتها يا صديقي في الفن لم يكن يهمني رضى إنسان يتنفس من رئتين إلاها. نهضتْ وقصدت بائعا مجاورا لهما تطلب منه فك ذلك المبلغ الذي ربما لم تكن تصل إليه مبيعاتهما في شهر.
مشت فازداد التنين الذي في قلبي شراسة وتدميرا لمبادئي وأفكاري، وبقي صديقي يغمض عينيه هاربا من جحيم الفتنة. وقد هُيِّء لي أنني لست الوحيد الذي أخذه جمالها وسحرها، لكنني فضلت ألا أعتقد بهذا لأن الحسرة كانت ستقتلني. كنت أنظر إليها تحمل ورقتي بين أصابعها وتسأل الباعة حتى عادت آسفة وقالت: "إذا كنت بحاجة إلى الحذاءين فخذهما وعد غدا"، ولن أطيل وصف فرحتي بهذا الموعد يا صديقي، بل ربما سأكتفي بوصفه موعدا لم يهمني أن أموت بعده.
خرجنا من بياض الساحة، وشمس الأصيل تنثر فوق رؤوسنا وعلى وجوهنا شعاعا ساخنا يتعرق منه الجبين. لن أنسى موعظة صديقي الطويلة وصمتي، وكنت أردد في بالي "هذا فراق بيني وبينك" لكنني لا أُسمعه ما أقول. كانت نافذة غرفتنا تشرف مباشرة على بوابة المسجد، ففتحتها ورحت أتابع حركاتها متى وقفت ومتى قعدت حتى أظلَّنا ظل المساء فلم أعد أراها. 


* ابن صيّاد: من أشهر المغنين في زمن الدولة الأموية. 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.