03‏/05‏/2016

تفاصيل (10)~ السفر الذي لم يكتمل


"غافي على الطّريق، غافي حدّو الزمان"


لا شكّ أن السّفر بالسيّارة أكثر رفاهيةً من السّفر بالحافلة المليئة بالمعقّدين التي أكون أوّلهم غالبًا، وهذا لا يعني طبعًا أنني سافرتُ بسيّارة "شفرولييه" أو "كيا ريو". كانت سيّارةً كلاسيكيّةً وأقلّ من عادية. شبّاك المقعد الخلفيّ فيها لا يفتح. لكنني كنتُ أقولُ دومًا أن فخامة السيارة تكمنُ في موسيقاها وهذا كان متوفّرًا بدهشة. شيئًا جعل المقاعد وثيرةً، وجعل تعامل العجلات مع المطبّات الأمنية يشبهُ الطّفوَ على سريرٍ وسط البحر، ولم أكن أتوقّع أن يكون لمروان هذا التذوق الرهيب، بل لم أكن أتوقع أن يفتتح حفلتهُ بصوت "لينا شاماميان" وهي تغني السفر والبحر والقلبَ الموتور. وعندما عرفتُ كل هذا لم أستغرب منه حين فتح لي باب السيارة في البداية وقال بمنتهى الطّيبة والإحسان: "تفضّلي". كنتُ أعتقدُ أن عمري سوف يفنى قبل أن أكون بطلةً سينمائيّةً، أو طفلةً لا تعرفُ أن تدخل وحدها في طريقٍ صغيرٍ ومتعفّن.

كانت الساعة السابعة والنّصف قد نزلت على الشوارع وعتّقتها ببدايات المساء. بداياتُ المساء تعني القناديل البرتقاليّة، السماء الزرقاء المنسحبة بغيظٍ من مسرح الكون الهزلي، انتظار المفاجآت، والقدرة على رؤية أصابعكَ إذا ما وجهتَ يديك أمام عينيك وتأملت. هذه ليست أصابع بعد الآن! إن لها ظلًّا متمثّلًا في الأفق البعيد المخيف، وفيها خطوطٌ من التوتّر العالي، وفيها ريشةٌ مَخفيَّةٌ ومخبّاةٌ إلى ذات غضبٍ حين سيُطلَبُ منك أن تعرّف عن نفسكَ وتتشبّثَ بهويتكَ وتجيبَ عن أسئلةٍ سخيفةٍ ما كنت لتفكّر فيها قبل بضعةِ سنوات.

حلّ المساء وكان يفرقعُ نفسهُ تحت عجلات السيارة. يصدر صوتهُ المبحوح الذي اختلط بإسهاب الحياة في شرح نفسها وتعتيق المارين بسيلٍ من الاحتمالات التي كنا نعرف أنها لا تكون سعيدةً دومًا. راح مروان يخترق كل هذا بين الحين والآخر ليوجّه لي بعض الأسئلة، وأخبرني عن تجربته الجامعية، ثم قال بهدوء: "لقد درستُ العلوم الطبيعية وخرجتُ بنتيجة واحدة. أنا كائنٌ طُفيلي والدنيا -كل هذه الدنيا اللعينة- أكدت لي ذلك" ثم ضحك بصوتٍ مرتفع بدا في تلك اللحظة قادمًا من قاع روحه مختصرًا كل معاناته. "ما الذي منحكَ القوة إذًا؟" سألتهُ بجديّة، فأجابني: "الموسيقى، وأظن أنك تدركين هذا الآن. أليس كذلك؟" ثم تشاركنا في ضحكةٍ طويلةٍ كانت أشبه بحديثٍ مفصّلٍ وعميق.

لم أكفّ عن عدّ عيون الظلام، وتذكرتُ حماقتي حين حاولتُ أن أرسم له عينين وأغمضهما حتّى ينام، وتذكرتُ حماقة فيروز حين كانت ترجوه أن يغيبَ أيضًا. استحضرني حينها وجهُ أبي الرقيق، وتخيّلتُ أنه يضيءُ على كلّ المنافي ويفتّش على كل الحواجز، فيمنحُ لكل شخصٍ علبة سكاكر ثم يقول: "هذه هويتك"، وعندما يفرغ من عمله يمر السوق الشعبي ويشتري لي التفاح ثم يحدّثني عن أخباره، لكن أمي قطعت عليّ روايتي الفكرية حين قالت لي مشدّدة: "جبنةُ السهول يا نور. وضعتُ لك علبة. حين تأكلين أحكمي إغلاق الغطاء وإلا ستجفّ وتصير سيّئة. الفلفل الأخضر الحلو مفيد، ضعيه في طبق السّلطة. أنت تحبين الخسّ أيضًا والفراولة والليمون. لا تنسي أن تهتمي بنفسك. إنك تنسين كثيرًا في هذه الأيام وتقولين عن الأشياء القبيحة أنها بمنتهى الروعة. ما الذي دهاكِ؟ أخبريني حتّى نخفف وطأة الطريق." "الكلامُ يا أمي لا يخفف وطأة شيء. بإمكاننا أن نغني مثلًا. أن نمسك بأيدي بعضنا. أن نرقص ابتهاجًا بحسن النهاية" ضحكتْ أمي ثمّ علّقت كما يعلّقُ الجميع: "مجنونة". لكن شعورًا بالأسى خالطني حينئذٍ، وأحسستُ أن هناك نجمةً ما، قريبةً جدًّا -في وجهي ربّما- ستنطفئ.

أرجعتُ رأسي نحو الخلف وأغمضتُ عيني، ولن أقسم طبعًا حتى تصدقني. لقد رأيتكَ وأنت تجلسُ على طاولةٍ صغيرةٍ تتسع لك فقط، تضع كأسًا من الشوكولا ومنفضة السجائر التي اخترتها لكَ لكنني لم أستطع إرسالها يومًا. كنتَ تدخّنُ بشراهة شخصٍ يستمتعُ بهذا. لم تكن كئيبًا أو نزقًا في فعلك. كنت حافي القدمين ترتدي قميصًا بنصف كمّ يتأرجحُ لونه بين غوايات الأخضر الفتان. لنختصر الحديث دعني أقل أنك كنت تبدو جالسًا في مكان يمنحك الراحة والأمان، وتذكرتُ حينها أغنية "نم يا حبيبي الآن نم" لكنني كنتُ بلا صوت. هل تدركُ هذا؟ إننا حين نستهلكُ أنفسنا في هذا النوع الشقيّ من الحنين فإننا نسكبها كلها دفعةً واحدةً في خيالٍ صادقٍ وحيد، فلا يعود منّا سواه والكثير من الرّضا طبعًا الذي لا يلبثُ أن يتحول إلى غضبٍ مجددا. هكذا حتى ننطفئ تمامًا أو نصير وهجًا. ليس في الأمر احتمال وسطيٌّ أو طريقٌ آمن. قديمًا قال عمّي المغترب: "الحبّ المُبهَمُ بضخامته يقودنا دومًا نحو الجنون" قلتُ له: "الجنونُ حلوٌ يا عمي" فضحكَ ضحكتهُ الأشهى ثم قال: "let me say it is madness any way no matter it is sweet or not my deva" ثمّ عقّب: " الحياةُ لا تُطاقُ من دونه".

توقّفنا عند حاجزٍ أمني فقال لي الرجل: "أين تسكنين؟ لم تأتين إلى هنا؟ لو أنني سأقارنُ صورتك على البطاقة الشخصية بشكلك الآن لما صدقتُ أنها أنتِ". قال الجملة الأخيرة وقهقه بصوتٍ عالٍ بدا لي أشبه بانبعاث الشمس على طبقٍ من المثلجات وذوبانها تمامًا وفقدانها لكلّ خصائصها الشهية، وبعد أن أجبته -بعد أن أجبناه جميعًا- وجرت دورة التفتيش الاعتيادية عبرنا بسلامٍ نحو حاجز آخر لن يكون بعيدًا جدًّا.

كانت الدنيا قد اشتدّت بظلامها أكثر وصارت الأضواءُ أكثر ضبابية، وعلى مدّ النظر كان هناك حبلٌ منها يتراوح بين الأصفر والبرتقالي والأحمر. كانت تشبهُ سلسلةً مُحكَمةً من الألعاب النارية الأرضية، وفي الحقيقة كنتُ أراها مثل الزغب الذي تكوّن على ذقنكَ آخر مرة، ناعمةً وغائمةً في سمرة الليل وممعنةً في كونها حلمًا بهيجًا، أو زمنًا هاربًا من نفسه، وحين بدأت بالتفرّق صار ذقنك أكثر وضوحًا وصار بإمكاني أن أتجوّل عليه فينالني قسطٌ من هواء قلبك المنعش. الكونُ الآن -كل الكون- حين ينتهي الخوف مؤقتًا وتفوح رائحة البرتقال ويضيءُ رجلٌ كشكَ فاكهته على الطريق وتموج السيارةُ مع "رشا رزق" يشبهُ قلبك. وقلبك -لو تدري- أحلى بكثير.

وصلنا إلى وجهتنا أخيرًا، حيثُ كانت الشوارعُ مزدحمةً جدّا، وإنني أتفاءلُ حين تستقبلني رائحةُ المخابز. أحبها هذه الأبخرة المليئةُ بالفانيليا وأتخيلُ أنني معها حلوةٌ جدّا بل رائعة. قال لنا مروان أننا صرنا أمام المنزل الذي جئنا إليه، ووجدنا رجلًا لطيفًا في استقبالنا. نزل الجميعُ وبقيتُ وحدي أنتظر، فمدّ الرجل وجهه الكبير من النافذة. كان له بشرة سمراء وعيونا خضراء واسعة. تبدو ياقة قميصه الوردية وعلى فمه ابتسامة عريضة جدا. ألقى علي التحية وسألني عن اسمي وفتح معي حديثًا بسيطًا ومُريحًا، ثم غاب. أرجعتُ رأسي نحو الخلف وشعرتُ أن كل الأشخاص الذين يمشون خلف السيارة لا يتجنبونها بل يدخلون رأسي ويتحولون إلى أفكار مبهمةٍ وملونة، ورحتُ أبتسمُ بلا إرادة مني. ابتسمتُ مطولا لهذا الشعور وأحسستُ أنني أمّ هذا الكون المصغّرِ النّزق.

طرق الرجل زجاج النافذة ومدّ رأسه مجددا وقال: "هل أنت بخير؟" أرخيتُ رأسي نحو الأمام وهمهمتُ: "نعم" ثم مد يدهُ وأعطاني قطعة من الكعك وعقب: "تبدين متعبة". راح يحدثني عن عملي وعن رأيي في هذا الشارع المزدحم ويحكي لي عن دكانه الصغيرة وولعَ النساء بالتدخين،  وكيف أنه جاهد في الصيف الماضي لإنقاص وزنه دون فائدة مشيرًا إلى بطنه الذي لم يكن صغيرًا طبعًا، وكان يتوقف كل قليل ليضحك بعمقٍ تاركًا "غمازته" تظهر على خده الأيسر بسلاسة. علق على أغنية وردة التي كانت تنبعث من الراديو بشيء من الرقة وأخبرني أنه يحب اتخاذي كصديقة له، كإبنة إذا لم يكن عندي مانع وأسهب في الحديث عن والدي ثم غاب مجددا، وكان هذا غيابه الأخير الذي لم يعد بعده، وربما كانت هذه هي "الأبوة المعاصرة" التي تبدأ وتنتهي لحظة الحديث عنها.

تجولنا قليلًا بعد ذلك، اشتريتُ فستانًا، وقطعة أخرى من الكعك. صمتنا لفترة لا بأس بها كأننا استوحشنا الضجة وشعرنا أنها لا تنبئ بشيء جيد، وهذا الشعور كان جماعيّا وحقيقيّا وبشعًا مثل نيسان.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.