01‏/06‏/2016

زهراء



تزيحُ خصلات شعرها عن وجهها. هكذا يبدأ الصباحُ غالبًا، وتشرق الشمسُ أكثر عندما تفتحُ عينيها. أول ما يواجهها هو السقفُ الذي أكلت الرطوبة جزءًا لا يستهان منه، وهي تحب أن تحدق فيه قبل أن تقوم بأي حركة. ترتّب أحقادها وتتساءل ماذا يوجد وراءه. إنها تدركُ جيّدًا أنه "ياسر". جارهم السكران الذي يضربُ زوجته كل يومٍ ويحبّ الموسيقى. لن يمضي وقتٌ طويلٌ حتّى يبدأ بإزعاجه -كما يقول والدها- على نقيض ما تعتقدُ طبعًا، فقد كانت ترى أن الموسيقى هي حسنتهُ الحاليةُ الوحيدة. الشاهد اليتيمُ الذي ظلّ على عبقريته القديمة، فقد كان ياسر محاسبًا ماهرًا جدًّا يقدر على حلّ المعادلات الرياضية بخفّة قطةِ تمرُّ من تحت سيارة. يدهشُ الجميع حين يبدأ بالكلام فقد كان مثقّفًا، ثريًّا بالنظريات العلمية، وله رأيه الخاص في بدايات العالم ومجيئنا -نحن المخلوقات المزعجة- إليه. في أحد الأيام -منذ سنة تقريبًا- عاد ياسر من الشركة التي كان يعمل بها وأغلق باب غرفته. ظلّ وحيدًا لأسبوع ثم بدأ بأن يكون سواه. حينها لطمت زوجته وجهها وقالت: "لم يعد ياسر من الشركة في ذلك اليوم المشؤوم"، ولا أحد يعرف ما الذي حدث بالضبط. كانت "زهراء" متأقلمة مع جنون العباقرة ولم يكن جارهم المحاسب الموسيقيّ السكّير أول نموذج تراه لحماقة الوطن. ظلت تحدّقُ في السقف لخمسة عشرة دقيقة ثم قررت النهوض. في الطريق إلى المغسلة التقت بأمها التي كانت تبتسمُ ببساطة. لمّا عبرت بقربها قالت: "صباح الخير"، فاستمرت والدتها بالابتسام دون أن تتكلم.


فوق المغسلة مرآةٌ غبّشها الوقت ولم يستعد زجاجها لمعانه التام رغم كل النظافة التي تحرص عليها زهراء. يتبيّن وجهها طريقه الشفاف. لها بشرةٌ قمحيّة و"عينان خام" كما كان يقول لها رؤوف منذ سنين. شعرها مكنسةٌ مصنوعة من أوراق الخريف الناضح بخرابه الجميل، وكان لها غمازة واضحة في ذقنها الصغير تعطيها مسحة من الابتسامة الإجبارية. وهكذا كانت تبتسمُ عند المرآة في تمام الساعة السابعة كل صباح، ثم تنصرفُ لأداء واجباتها العادية متلخّصة في الترتيب والتنظيف والطبخ والغسيل. كل البيت كان يقوم على كتفيها. من بابه إلى محرابه. وكان والدها رجلًا قاسيًا وبلا عاطفة. انتهت رسالته السامية حين أنجب ثلاثة أولاد ورماهم نحو الحياة، وبهذا شارك في الجيل الجديد ولا يستطيع أحد أن يغيّب اسمه من بين المنجزين الذين تناسلوا على نحو جيد. لم تكن زهراء تحمل له أي عاطفة في المقابل مع أنها كانت تتمنى لو أنها تشعر أن لها سندًا أو صديقًا يتذكرها بقطعة شوكولا أو يحدثها بشيء غير الطلبات اليومية المجهدة.

كانت تبحث عن الحرية. لكنها لم تكن تعرف أن تحدد لها ملامح واضحة فقد كانت مفكرة دقيقة جدّا وملعونة للدرجة التي أنبت لها تفكيرها كل العوائق الكبيرة والاختلاطات التي يواجهها العالم من حولها. ولم تستطع أن تفهم لم وفي مكان آخر هناك امرأة تشبهها تعيش حياة أفضل منذ أن ولدت؟ "من أنا؟" ضاعت زهراء في ضباب هذا السؤال طويلًا. وكانت تدرك أنها في رحلة مضنية لإيجاد وجودها وإثباته. "حسنًا" قالت بتركيز وبدأت تكتب:
"أنا زهراء قادر الحاج حسن. عمري ثلاثون عامًا. كان عندي تجربة حبٍّ فاشلة لكن هذا يعني أنني أحببت. أعمل في التدريس. أوه! لقد تفاعلتُ مع أشخاص رائعين وشهدت على نطقهم لأول جملة صحيحة باللغة الفرنسية، ولم أكف يومًا عن سؤالهم عن أحلامهم. إنني أتساءل هل أصبح عزيز رسّامًا الآن؟ وهل سافرت غادة خارج هذا البلد حتى تنال حريتها كما كانت تقول؟ وهل صار أسامة خبّازًا؟
إنني موهوبة أيضًا في تنسيق الطعام. هل طبق السلطة الذي أقدمه -على أقل تقدير- يكون عاديًّا؟ أقسم ببشرتي الشفافة أن أخي يلتهمه ويقول لي متلمّضًا: "زهراء، هذا سعادة". بإمكاني أن أرقص ببراعة على أغنيات فيروز الكئيبة التي تندر فيها الموسيقى الشقية، وعلى جملة أم كلثوم البليغة جدا التي تختصر تمردي حين تقول: "عايزنا نرجع زيّ زمان؟" يزمّ جسدي نفسه مستفزًّا الهواء والمخلوقات اللطيفة، ثم يقهقه بصوت مدوٍّ: "ئول للزمان إرجع يا زمان!". حتّى أن صديقتي قالت لي أن أنتقل لإنشاء مدرستي الخاصة بالرقص وأن أخلص الناس من حركاتهم البليدة.
لديّ الكثير من المظلات الملونة التي تموج حول وجهي وبإمكاني أن أغير طقس المدينة من خلال قميصي البحري كما يمكنني أن أقرأ بسرعة بالغة، وأصطبغ بلون الورق حتى لو كان الكترونيًّا. في الأسبوع الماضي تتبعت أثر قطة سوداء في العتمة، وتغلبتُ على خوفي فيما يخصّ دناءة عينيها ولغتها المفاجئة، فنظرتُ إليها مباشرة حين ماج ضوء سيارة عابرة ثم ضربتُ الأرض برجليّ حتى طردتها من البقعة التي أردتُ أن أقف عليها، كما ذهبت إلى المقهى الذي في نهاية الشارع مع صديقتي التي أعتبرها "تحويشة عمري" أليس عظيمًا أن يمتلك الإنسان منا صديقًا حقيقيًّا لهذه الدرجة؟ كان المقهى يبدو غائرًا في بشرة الحياة مثل ندبة. تتراوح أضواؤه بين درجتي الأبيض والبرتقالي، وتنبعث منه رائحة الشاي والفاكهه، ويسمع صياح رجال متحمسين لكرة تحف على العشب لكنها لا تكمل طريقها تجاه الهدف.
هل أكون الكرة؟ كان النادل الذي كان يحدق بي شابًّا طويلًا يرتدي قميصّا تفاحيًّا وبنطالًا كحليّا ويحيط معصمه بساعة ضخمة على نحو مبالغ فيه، وكمعظم الرجال الذي التقيت بهم هذا الأسبوع فقد كان يستحم بالعطر ولا بدّ أن أشير إلى أن العطر كان فاشلًا جدا وأنني قررت في لحظة حماس أدبي أن أكوره في روايتي القريبة التي سأجمع فيها كل الرجال التافهين وعلى رأسهم أبي وعمي بلال وبائع الخضرة، صاحب الدهون السمكية المتراكمة في عقله.
إنني إذن موجودة. أسمع أنفاسي وأمتلك هذه اللحظة التي أكتب فيها وأجد الوقت رغم أمومتي المفروضة علي حتى أشذب شعري وأضع الكحل وأقهر الحشرات التي تخرج من رأسي. إنني لا أقل أهمية عن أي فنان يصفّق له الآخرون. أنا كل الآخرين وإنني أصفق لنفسي، وأعينها كل يوم على القيام لأمنح هذا الوطن فتاة حلوة تساهم في إنهاء الحرب بأسرع ما يمكن.
أنا زهراء التي أرعى عصفوريّ دوري وأحرص على إطعامهما كل صباح. أضع الياسمين في شعر أمي حتّى لا تشقى وأسلّم على كل الأصدقاء الذين يختلفون عني ولا أبيع معتقداتي لأحد ولا أسول استعارتها أيضًا، وأعطر قميص أخي قبل أن يلتقي بحبيبته. ألا تعرفون؟ إنني أمنحها الرائحة الأبدية التي تدفعها إلى سماع دقات قلبه فأخي لا يعرف كيف يقول لها ذلك. وهي تبتسمُ مطولا وهي تتنفس منه.
أجزم أنني لن أشيخ ولن أشك في وجودي مرة أخرى، ولن أسمح لجمالي أن يصير لعنة كما حدث لجارنا المسكين. إنني أمنحكم عبقريتي كيفما أشاء. ووحدي أقرر متى أرفع يدي لأريكم الغبار الكوني العالق تحت إبطي".

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.