30‏/05‏/2016

لوردي




كان كلّ ما في "لوردي" بسيطًا باستثناء اسمها الذي اعتبرهُ أستاذ اللغة العربية شيئًا خارجًا عن مألوف شخصيّتها، ولا يليق بتلعثمها حين تلقي قصيدةً ولا برداءة خطّها وهي ترسمُ الياء في نهاية كلمة "علي". كانت قليلة الأصدقاء. تصاحبها "سلمى" المصابة بفرط الفلسفة، و "علياء" التي كان همّها الوحيد أن ترسم خطوطًا غير مفهومة وتسمّيها لوحات فنيّة، ثم تسخرُ من بيكاسو ودافنشي، وهي تمضغُ اللّبان بالنعناع وتصنعُ منه بالونًا كبيرًا جدًّا. كانت لوردي تتخيّلُ أن البالون يمكن ألا ينفجر بل يأخذ بالاتّساع فقط حتّى يصير وطنًا لها، تجلسُ داخلهُ وتمدّ رجليها، ثمّ تشاهدُ غباشةَ العالم الخارجي. لكنّ صوت انتهائه وارتطامه بشفاه علياء الغليظة كان يوقِفُ مجرى خيالها ويعيدها نحو الواقع، ويلفتُ انتباهها أن لها ظلّا على الأرض يميلُ معها ويعكسُ شكل جسدها المكتنز الذي لم تكتشف بعد، فقد قالت لها أمها أن الجسد هو الجزءُ القذرُ منّا، لكنّ الروح هي الأهم وعليها تغذيتها بالصمت الطويل، والتأمل، وعدم التدخل في مشاكل العالم وبالتالي عدم التفكير في حلّها وبالتالي انعدامٌ نسبيٌّ للوجود. كانت لوردي تنتفضُ عندما تتذكر هذه المواعظ التي استمرت والدتها بتكرارها على طاولة الفطور كلّ يوم. وكانت تتساءل في كهفها العميق عن إمكانية أن يكون هذا سخيفًا جدًّا وتافهًا، وأرادت بكلّ عمق أن يكون لها صديقً وفيٌّ -غير "دبّها الأحمر" الكبير الذي يغنّي ذات الأغنية منذ خمسة سنوات- تحكي له عن الرعب الذي يرافقها، وكيف أنها تخاف من نفسها لكنها تريد أن تقرأها رغم كل شيء، وتريد أن تدرك شجاعتها المخبّأة وتكون قادرة على مناقشة صديقتها في القضايا الفلسفية برأي يخصها وحدها، والخربشة أيضًا، إذ لطالما شعرت لوردي برغبتها في رسم امرأة عارية مزهوة بجسدها. وكانت تتساءل: "هل تستطيع امرأة متّسخة الروح أن تزهو بجسدها؟" كانت ترى أن التصالح مع الجسد يحتاج إلى قوة روحية عظمى، وهذا ما حاول الأستاذ حسين "الخرفان"-كما يسمّيه الطلاب- أن يقوله يوم الأربعاء الفائت.

تسكنُ لوردي في حيًّ متوسط الرفاهية، فيه "دكان" كبيرة جدا تتلخص فيها كلّ مفاهيم الحرب اللعينة من غلاء الأسعار وانعدام الشفقة والمعلبات التي تجبر على شرائها. في الحيّ بضع سيارات لامعة يغلبُ عليها اللون "الرماديّ الفاتح" الذي كان يساعدها على التأكد من شكلها جيئة وذهابًا من المدرسة. وقفت لوردي أمام سيّارة "العم محمود" الأكثر فخامة. كانت مكتنزة على نحوٍ مغرٍ، شعرها بنيٌّ قد طُبخ للتوّ فسالت منه رائحة الشوكولا المدهشة. ممسّدٌ نحو الخلف تشعّ منه شموسٌ ضغيرةٌ ومشاكسة. لها بشرة بيضاء لا تخلو من التورّد وما يميّزها هي "الشامةُ" التي تعلو فمها المخلوق بتأنٍ تامٍ وملفت.
"قشطة يا قشطة" قاطع شابٌّ تأملها، ومن دون أن تفكر قالت له: "تضرب بشكلك" وكأنها تعني: "أنا حلوة جدا، أحلى منكم جميعًا، أحلى من كل خرابكم اللعين".
ثم مررت يدها على السيارة وقالت: "أبو محمود بنئ دايمًا إنو ما معو مصاري. نخر راس أبي وهوّ بنئ. إي وحياة هالشجرة إنو سيارتو لحالها حقها بلاوي. لك أنا بئدر إشتري فيها كومة كتب وإعمل بالبائي طيارات ورق وساعتها أبو محمود بينجلط طبعًا".

تدخلُ لوردي المنزل. تخلع حذاءها وجوربها الذي يكون غالبًا مخططًا بعدة ألوان. تسلم على والدها المتسمر أمام الأخبار ثم تتبع رائحة الأكل. "محااااااشي؟" تصرخ لوردي ببهجة، وحين تمدّ يدها نحو الوعاء تتلقى ضربة خفيفة. تصعد مسرعة نحو غرفتها. تبدل ملابسها. تغسل وجهها ويديها ثم تنزل. على المنضدة الخشبية المستديرة تبدأ بالتهام طعامها المفضل. دائمًا تكون أول من ينتهي. تبدأ بعدها بفتح أحاديثها البسيطة وتستخدم يد والدها كملهمٍ أساسي. أحيانًا تخترعُ أحداثًا وهمية لتنال ضحكته، وحين تنجح تمعنُ في الاختراع أكثر حتّى يقهقه. تشعرُ عندها بالانتصار الصغير الذي يعطي لوجودها معنى مقدسًّا، ويجعلها جذابةً بما يكفي لتغطّي على أصوات القصف البعيدة، ويجعل قامتها أكثر ارتفاعًا من "الدولار" اللعين. هكذا تقضي لوردي أيامها. أحيانًا تحاول أن تقول شيئًا مهمًا للمرأة الصغيرة، أو أن تحصل على فرصة للغناء لكنها تعجز دومًا عن إيجاد الأغنية الملائمة لذلك كانت تكتفي بالاستماع لدبها الوفي، وتصفق له بحرارة.

اليوم هو الأول من أيار والشتاء قد حلّ من جديد.  البلاد تحتفل -رغم كل شيء- بعيد العمال. لوردي  تتذمر دومًا من الاحتفالات والعطل وتضع نفسها ندًّا إذ تقول: "لماذا لا يحتفل أحد بيوم للطالبات؟ لماذا لا تحصل البلاد على عطلة في يوم ميلادي؟". قررت خالتها أن تصطحبها ليقوموا بإحضار صديقة نازحة كانت قد تركت بيتها بسبب الأوضاع الصعبة. فرحت لوردي جدا وفكرت أن بإمكانها أن تحصل على نافذة متحركة، وأن تحظى بالهواء الكافي لتستجلب أحلامها وقدرتها الخارقة. في تمام الساعة التاسعة كانتا تقفان على باب "كراج الحافلات". اندهشت جدًّا بالناس الذين يعافرون الحياة رغم اليأس، ويختارون لأسباب متعددة أن يتوجهوا نحو متابعة مشاغلهم رغم الثقب الواضح في ظهورهم. تقول وهي تستند على كتف خالتها: "كثافة سكانية ملفتة، لم ترد في كتاب الجغرافيا" تضحكُ بصوت مرتفع، تستمرّ بالضحك حتّى..
بوووم
تفر العصافير القريبة ويهتزّ سرير فتاة في الطابق الخامس من هول الانفجار. يسيطر الضباب الكثيف والصراخ. وهناك قريبًا جدًّا تركض لوردي. إلى أين تأخذها قدماها؟ وما هو الطريق الذي يجب أن تسلكه؟ حاملة عبء وطنها على كتفها ورامية ثقل الدماء فوق كفّها الأيمن وقابضة على سمكة حيّة بيدها اليسرى. أما قلبها فهو لوحة مليئة بالألوان التي يعبث فيها الخوف ثم يفر منها صوت داخلي يقول: "أنت قوية. أنت جبل. أنت حلوة جدا والحلوات لا يمتن هكذا. ليس عن طريق الخطأ، ولا قبل أن يرسمن رجلًا أسمر يدخن سيجارته العاشرة ويلعب الغمّيضة مع ذاكرته".يستحيل الخوف إلى قطعة هشّة من القطن ويطير حتى يصير شيئًا مجهولًا لا يعرف عنه إلا اختفاؤه بين ضفائر الفتيات اللواتي كنّ يصرخن أيضًا. من يمنحنا الحياة؟ كانت خطواتها تتساءل وكلما لهثت أكثر تأكدت أنها الآن مسؤولة عن منح الحياة لنفسها ومن الخطأ أن تتوقف عن الركض. فالتوقف الآن يعني الموت، انهيار القمة التي عمرتها واستنبتت منها مطرًا وبحرًا وقاربًا. كان يعني التخلي عن شجرة الزيتون في حديقة بيتهم الأول وعن مذاق القبلة الأولى وعن الذراع الرطبة التي ستعلق عليها خيوط الفجر وبدايات العالم وتحارب بها الأسئلة الكثيرة والحزن الذي لا يهدأ. أخيرًا تنال لوردي ما تمنته دائما وهي الآن بعد أن جلست على رصيف آمن تشعر أن روحها هي مجموعة من الدبابيس التي ثقبت عقدة الجسد حتى طار وتهشم. وسوف تعرف لاحقًا أنها فقدت خالتها وصديقة كانت موجودة في نفس المكان.

4 التعليقات:

لم أشعر بالحزن وقد قرأتها مرتين (والثانية لم تكن، أيضًا، بسرعة)

لن أقول أن بها سعادة خفية تطغى على النهاية الحزينة أو الحزن في ثنايا ال(قصة) حتى ولكن لا أدري لم لمْ أحس بأي مشاعر (سلبية)

الاسم "لوردي" بصراحة جعلني أبحث إن كان عربيّ الأصل. وكذا بحثت إن كانت كلمة ضغيرة خطأ مطبعيًا أم كلمة عربية

استوقفني هذا السطر: (...في حي متوسط الرفاهية)

موقعه جميل ووقعه جميل.

جميلة جدّا هذه القصّة بما فيها من تأمّلات فلسفية وصور وجدانية وعلى الرغم من نهايتها الفاجعة وغير المتوقّعة.
شكرا جزيلا لك.
بروميثيوس

هذا ما تود لوردي إيصاله . إنها في النهاية ناجية عظيمة.

لوردي . كان عندي صديقة اسمها لوردي وكانت تقول دوما أن اسمها يعني "الورد" أما "ضغيرة" فهي خطأ مطبعي ضريبة تسرّعي.

أهلا بك دوما
يوما سعيدا.

تتأمل ، تتأمل ومن ثم ينبت الجدار. لكن لوردي اخترقته بطريقة أو بأخرى .

شكرَا لحضورك أيضا.

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.