لم تخش الموت عندما رأت
عداد السرعة يعانق الـ "200 كلم/ساعة". ضحكت حتى ظننت أنها جُنَّت.
سألتها بأعلى صوتي لأزيح الهواء الذي بيننا: "سحر، لا تخافين من السرعة كبقية
البنات؟". فازدادت ضحكا: "أبدا.. أنا لا أخاف حتى من الموت نفسه".
فضحكتُ قليلا وقد ظننتها فتاة انتحارية: "حتى من الموت؟ أنت الآن بحَّارة شجاعة".
أعلنت سحر ساعتها:
"لا". وأخرجها هذا الرفض من البحر وأخرجني معها، فانتبهت إلى أنني نسيت
نعلي على الرصيف عند فراش نومي ومنشفتي. فأخبرتها: "هل تعلمين؟ أنا
حافٍ". فتوقفت عن الضحك: "حقا؟ وأنا نسيت جوالي عند أهلي. لن يناديك
الطريق يا عبدي ولن يناديني أهلي، فأسرع".
"لا" قالت
سحَر، فتذوقتها في عقلي ووجدتها لذيذة، فقلت معها: "لا"، لكنني لم أضحك
عندما قلتها. لامست رجلي آخر ما يمكن أن تلمسه من دوَّاسة البنزين وكان العداد يحذرني
بطنينه. لم أكن بحارا مثاليا لا يخاف من الموت، ولم تكن أنثى مثالية جبانة.
أوقفت السيارة فجأة
قائلا: "أخاف عليك يا سحر"، فقرأت حقيقتي: "لا، أنت تخاف على نفسك،
لم تخشى الموت يا حبيبي؟".
لم تخافون الموت أنتم
أيها القراء؟ أنا لم أكن أعرف لم أخاف. حياتي المزرية زادتني تعلقا بالحياة، ربما
أنتم لا تخافون لأنكم موتى، لكن لماذا لم تخف سحر؟
واصلت حبيبتي العذراء:
"حلمت يوما بأنني مت. استيقظت مضطربة وصامتة. ثم ذهبت إلى جدتي التي تفسر
أحلامي دائما فقالت لي: "ستعيشين طويلا"، لكنني عندما تذكرت حلمي بعد
أيام ضحكت للغاية، واكتشفت أنني سخيفة، فلا أحد يشعر بأنه ميت، ولولا أنني استيقظت
لما تذكرت موتي الصغير، بعدها يا عبدي لم أعد أخاف من الموت، ستقولي إنني أكذب
عليك، لكن فلتعلم أنني إن كذبت فسأجد عالما أوسع من هذه السيارة العنابية الملأى
بأشرطة فيروز والمرشدي وطلال، هذه السيارة كلها صدق، رائحة الحبَّار النتن التي
تطوف على إطارها الخشبي الناعم، أنت، أنا (تضحك)، لاحظ أنني لم أزل سخيفة، فأنا
أضعك في المرتبة التالية بعد الحبَّار النتن. اسمعني الآن، لقد لمست اليوم بأظافري
قطعة حبَّار، كانت ليِّنة ولزجة مثل دودة، أدخلت الشوكة فيها وأحكمت خياطتها ثم
رميتها وأنا خارجة من الوعي، هل تعلم فيم كنت أفكر؟ في شعور ذلك الجسد المتورِّد
الذي كان يتحرك قبل أن يصير لعبة تتسلى بها فتاة من الجبل. أنا وأنت سنصير قطعا
لينة ولزجة، أجسادا جميلة صارت بشعة، ولكنْ أرواحا خالدة".
انتهت من كلامها ولم يكن
ثمة شيء أجمل من هدير ماكينة السيارة وصمتها. كل كلمة نطقت بها كانت ترعبني، ما
الذي يستطيع صيَّاد كثُّ الشارب أن يرد به على هذه الكلمات الغامضة البعيدة عن
رأسه الخاوي إلا من رائحة الملح والعفن؟
قلت شاعرا بالضآلة:
"ولكن أرواحنا ستخرج من أجساد..." فقاطعتني: "حبيبي، أنا لا أتكلم
عن هذه الأرواح. دعك من هذا، فلنسمِّها "أفكارا"، أفكارا خالدة جدا يا
عبدي. هل تملك ورقة وقلما؟". ولم تعطني حتى فرصة البحث، ففتحت الأدراج حتى عثرت
على صورة لهوية رفيقي وبدأت تكتب خلفها، لكنها توقفت: "لا حاجة للكتابة، هذه
صورة صديقك، صورة ثمينة في الواقع، فهي هوية حاسمة، وجهه الذي يقاوم الابتسام
واسمه الرباعي وتاريخ ميلاده ووطنه وبعض المعلومات الرقمية"، مزقت الورقة
وضغطت عليها بيديها، كوَّرتها ثم رمت بها من نافذتي: "لقد عبَرَتك هذه الهوية
الغامضة بسرعة يوما ما والآن هي خارج حدودك، لا تستطيع أن تخبرني أين هي الآن ولا
تستطيع أن تعيدها، لكن قل لي من هو صاحب هذه الهوية؟".
واصلت النظر إلى فمها:
"ها؟ إنه رفيقي، عرفته قبل سنوات في محل بيع السمك". قالت: "رائع،
لكن في هذا العالم ملايين الناس نعرفهم في محل بيع السمك، اذكر لي شيئا مميزا في
رفيقك". فكرت قليلا: "رفيقي يعزف على العود". التقطَتْ بقية الكلام
من فمي: "فهو إذن فنَّان! مثل هؤلاء الفنانين الذين يسكنون هذه الأشرطة
الصفراء. لكن كم من هؤلاء الفنانين مات؟ طلال مات، المرشدي مات، عبد الرحمن الحداد
مات، فيصل علوي مات وفيروز ترفض أن تموت لكنها ستفعل. عبدي أين أنت؟".
"ها؟" قلت لها
ببلاهة. فواصلتْ الكلام الذي واصل هو أيضا إرعابي: "كن معي قليلا حبيبي. لقد
مات كل هؤلاء لكن أصواتهم لم تزل بيننا. أين أجسادهم؟ إنها الآن مثل قطعة الحبَّار
التي جمعت بيننا، لزجة ولينة في مكان ما لكنها قادرة على إشعال الحب في قلبين
متباعدين: أحدهما من الساحل والآخر من الجبل".
حاولت الفرار من أفكارها
المرهقة بالتفكير في ما سيفعله أهلها إذا عادت إليهم: هل سيضربونها؟ سيقتلونها؟
سيعانقونها فرحا وامتنانا؟ هل سأمثل دور المنقذ الأسطوري وأقف منتظرا مديحهم
وهداياهم؟
لكن سحَر أنثى كثيرة
الكلام. إنها من الأشخاص الذين أحفظ كل كلماتهم كما قالوها بعد أن نفترق: والدتي،
خطيب الجامع وأحد كبار السن الهزليين في القرية. وأفكارها التي كانت تتباهى بأنها
جديدة لم تكن جديدة بالنسبة لي، لقد كان لها صدى معروفا في داخلي، أحسست بأن كل
كلمة "تهزُّها" لها "جواب" في "أوتار" روحي كما يقول رفيقي حين
يشرح لي كيف يعزف".
في تلك اللحظة تحولت إلى
فيلسوف، قلت وكنت أتجنب أن تلتقي عيوننا: "صحيح، عندما أمسكت بآلة العود لأول
-وكنت أحلم بلمسها- وجدت صندوقا خشبيا مخرَّما وبضعة أوتار تشبه خيوط الصيد. حاولت
تحريك أصابعي فلم أخرج نغمة واحدة. العود إلى تلك اللحظة كان عدمًا، "لا
شيء"، كان صمتا. لكن رفيقي يقول غير هذا عندما يضمُّه إلى صدره ويخرج كل
أنفاسه شاديا بصوته الجميل".
توقفت عن الكلام عندما
شعرت بدفء جسدها يمتد نحوي. طبيعة حياتي تحبب إليَّ المد في كل شيء: مد البحر، مد
الشراع، مد المواويل الساحلية. لكن هذا المد الذي انتهى بفمها في فمي لم يكن
محببا. تغير لون وجهها وهمست: "أحبك، أقبِّل فمك، ألمس شاربك بلساني، أمص
عرقك..." وكانت سخونة أنفاسها تنخرني نخر الأمواج في الصخور الرواسي. لم
أستطع إيقافها، ربما تلذذت، لكنني حين أدركت أنني أتلذذ وأمسك جسدها بشفتيَّ كانت
قد قررت العودة إلى مكانها وشرعت قائلة: "حلو؟ أعرف أنه حلو. رائحت سجائرك
وأسماكك وشعر صدرك... حلو حلو.. لكنني الآن أشعر بالخوف. لست خائفة منك ولا من
نفسي. لست خائفة من شيء واضح ومعلوم، المجهول هو ما يخيفني. هذه الأنفاس التي
منحتك ومنحتني، هذه اللمسات الشاهقة المبحوحة، أين هي الآن؟ أين ستكون عندما
سنستحيل إلى أجساد متشققة، إلى أرصفة عقيمة يعبرها العائدون وينتظرون موتها؟ حلو
حلو، لكنك خائف مثلي، ربما لأنك تفعل هذا للمرة الأولى، أنا أيضا، لكن هناك شبحا
يخيفنا، يا عبدي إنه شبح الموت".
احتجت إلى الحركة، اشتهيت
أن أضربها. حركتُ السيارة عائدا إلى البحر ولم أتكلم.
صمتت هي أيضا قبل أن
تقول: "نحن نخاف الموت لسبب بسيط، ليس لأننا نحب أنفسنا كثيرا، بل لأننا نكره
العدم أكثر من حبنا لأنفسنا. العدم مخيف وأسود. نراه كل الوقت في كل شيء: الليل،
الغروب، نهاية المناسبات، أواخر الضحك... لكن كيف نموت ضاحكين؟ كيف نستقبل الموت
بصدورنا الملأى بالحب والحياة؟ علينا أن نستفيد من المنتحرين في هذا الشأن. ما
الذي يفعله المنتحرون عادة؟ يكتبون رسائل طويلة منقحة جيدا، وربما يستعينون بمدقق
لغوي لأجل هذا ثم يعلنون عنها في مكان تسهل ملاحظته ويرحلون بكل لطف".
تصورت ما قالته جيدا
وضحكت. ولما رأتني ضاحكا بكت.
مسدت شعرها بيميني:
"سَحَر، أكرهك". ولم أندهش حين ردَّت نفس الكلمة إلي. فقد كنا كائنين
خرجا للتو من حياة إلى أخرى، انتقلا من مرحلة الحركة الفوضوية وغريزة الجنس التي
تسيِّر الناس إلى مرحلة التحليق المرتب الذي يهدف إلى غاية واحدة: أن يستمر تحليقا
إلى الأبد.
"أكرهك"..
"أكرهك" كانت فاتحة عهد جديد في حياتي. أعلم أن الناس يبدؤون حياتهم
غالبا بالعكس. لكن الناس ليسوا كلهم خالدين. هناك أسماك تتناسل وتلد أسماكا مثلها،
وهناك بحر واحد لا ينتهي.
* هذا هو الجزء الأخير,
0 التعليقات:
إرسال تعليق