27‏/03‏/2016

مسرحية من جزء وحيد: الآباء والأمهات (1,2,3)



إنه اليوم العالمي للمسرح، وهو اليوم الذي قررت فيه نشر هذه المسرحية القصيرة التي أنهيت كتابتها في 16.3.2016 وقررت الاحتفاظ بها وإرسالها إلى بعض الأصدقاء. أشكر الآن كل الأصدقاء الذين قرؤوها وأبدوا إعجابهم وعلُّقوا بإخلاص. وأرجو أن تكون بداية جيدة لأفكاري المسرحية. 


المشهد الأول: تحية مزعجة
 أوسّا، ثيودور

-       أعني.. لقد التقينا فجأة في هذا القطار المسافر إلى باريس. هل أبدو مضحكة؟ إنني أشبه عارضة أزياء تسقط أمام الجمهور. هيي، هل تسمعني؟
كان يحدق في المرآة حتى تتحد عيناه وتصبحا عينا كبيرة، يرتعش جسده.
-         اسمع، أنا لن أصدق أن اسمك "ثيودور". لن أفعل حتى تريني بطاقتك.
تأمَّلَ وجهها الذهبي الصغير ثم قال بإنجليزية متقنة:
-         نعم، هو ليس اسمي. أعتقد أننا نستطيع الحديث عن شيء آخر.
باسمةً قالت:
-         فلتفعل.
-         حسنا يا أوسّا، لقد التقينا صدفة.
-         ما تريد أن تفعل في باريس؟
-         لا أعرف. ركبت الميترو عندما علمت أنه سيخرجني من جنيف.
-         مضحك. وأنا لا أعرف. قد أزور تمثال الإبهام. يقال إنه يجلب الحظ.
أرخى عضلات وجهه:
-         ابقي معي. أنا سأجلب لك حظوظا كثيرة. أنا كائن عجيب.
-         سأتأكد من هذا. لا أثق في الغرباء عادة. ولكنك حقا عجيب. عندما لمحتك تختصم مع ذلك الرجل أحببت صوتك.
رأت تعابير وجهه تضطرب، وضعت يدها على ركبته:
-         هل أزعجتك؟
-         لا. هو من أزعجني.
-         ما قال لك؟
-         ناداني "يا ولدي".
ضحكت:
-         أظنه لم يقصد أذيتك. إنه مسنٌّ جدا.
-         شعرتُ بأنه دقَّ مسمارا في أنفي. أنا حساس. لم تخبئين عقدك؟
اضطربت. أخرجته. فدنا منها ولمس حروفه بيده (Asa)، قال بصوت منخفض:
-         اسمٌ عميق.
-         أوافقك. إنه يعني "الإله" في النرويجية. ويعني "جميلة" في النيجيرية. له معان كثيرة في لغات أخرى كالجناح والأمل.. ويُستعمل أحيانا كتحيّة للنساء.
ردد اسمها متعجبا:
-         أوسّا...
-         هل أنت قليل الكلام دائما؟
-         لا. لكنني أخفي انزعاجي. وددت أني ضربته.
-         أوه لا. إنه مسكين. لِمَ أزعجك نداؤه؟
غرق في مرآته. لفظ أنفاسا ساخنة على سطحها فتكون ضباب خفيف. كتب عليه Asa. وقبل أن يريها كانت الحروف قد تكثفت. البرد شديد. كلبٌ يلحس ساقي عجوز نائمة. وثيودور يشعر بخيبة طفل بنى بيتا كبيرا ثم هدَّته حماقة ريح مفاجئة. تناولت منه المرآة ونفخت فيها بهدوء. كتبت Asa. نفخت فيها. أرته فابتسم.
-         النفخ والكتابة.
-         هذه هوايتك؟ تشبه الكتابة والمحو على الرمل.
سكت قليلا، قال:
-         أزعجني لأنه فرض علي بهذا النداء أمورا كثيرة. استحقرني.
-         لا أرى في ندائه أي معنى للاستحقار. كبار السن في كل مكان ينادوننا بهذه الطريقة. تعلم؟ أشعر بشيء من القدسية في هذا النداء (تغمض عينيها في صمت عميق وقصير). لا أدري لم لا تفعل.
-         إنها كلمة سيئة.
-         ولدي؟!
-         نعم.
-         أنت تربكني. ألم تسمعها من والديك؟
-         سمعتها حتى كرهتها. تعلمين؟ الآباء والأمهات أشخاص منبوذون في عالمي.
-         لماذا؟
-         لا يجب أن يكون هناك آباء وأمهات.
أحسَّت أوسا بالجفاء. حاولت أن تعرض عنه لكن وجهه الأسمر المسلوق في حرارة البحر الأحمر حاصرها. ثيودور.. ثيو.. تصورت في لحظة غير منطقية أنها تناديه إلى الإفطار في صباح هادئ وهي ترتدي بيجاما بيضاء تغطي رحمها الناتئ. أيقظها:
-         لقد عشت في عائلة عربية أول ثلاثين عاما من حياتي.
-         ثم؟
-         ثم اكتشفت أن الحياة العائلية تكيُّف لم يعد ضروريا. ينجو الإنسان من التشرد والجهل لكنه يقع في وجود عسكري تجنيدي سخيف. بغض النظر عن الاسم وألوان الملابس والمدرسة التي سوف يختارها له هذان الإلهان، سيجد في النهاية أن إمكانيات وجوده كلها قد اختيرت له قبل أن يكون جنينا أشبه بالوزغة.
-         يا إلهي. أنت قاس.
يضحك يقول بنفس درجة الصوت:
-         أنت جبانة. إنك مرغمة على حب العائلة لأنها تمثل لك نهاية مُرضية. إن في حوضك  كيسا سميكا يجب أن يمتلئ حتى تحظيْ بفرصة البقاء في الذرية. أنا رجل حر.
-          اخرس.
قالت أوسا بصوت عال ونهضت. همهم الرُّكاب. صاحَ ثيودور بصوت أعلى:
-         يا أمنا القديسة المسكينة.. أنت بحاجة إلى زوج يحميك وأب لأفراخك الضعاف.. أنت بحاجة إلى أبناء أقوياء يطعمونك عندما تصيرين عجوزا كئيبة.. أنت بحاجة إلى مجموعة من الموجودات لتمارسي عليها خوفك وعارك ونقصك وقلقك.
وضع ثيودور يديه المرتجفتين على فخذيه. استيقظ بعض النائمين وبحث الرُّكاب عن رجل في منتصف الأربعين يرتدي معطفا كاكيًّا نظيفا، ويتكلم بصوت عال بدون أن تبدو عليه ملامح الغضب...

المشهد الثاني: تلك الفتاة السويسرية
ثيودور، الشرطي

-         سيدي أنت الوحيد الذي علا صوته عن الحد اللازم إلى الآن. ما هي مشكلتك؟
نظر إلى وجهه المنفعل مبتسما:
-         أعتذر. مشكلتي الوحيدة هي أنني أتكلم أثناء نومي. هل هناك غرف لهذا النوع من الناس؟
-         هل تتذاكى علي؟ رأيتك تجادل تلك الفتاة، من فضلك التزم الهدوء.
وضع ثيودور قبعته البنية على وجهه لإهانته. أزاحها الشرطي بلطف وانحنى حتى دنى من وجهه، ثم قال بصوت خفيض:
-         اسمع، أظنك تحتاج إلى تغيير مقعدك.
-         هل تحللني نفسيا يا رجل؟ حقا ركاب هذا القطار كلهم نبلاء. لن أغير مقعدي. وسأحاول أن أتجنب الحديث معك إلى نهاية الرحلة.
-         اتفقنا.
ابتسم الشرطي هامًّا بالقيام. هز رأسه في زاوية غامضة ثم توجه إلى ثيودور:
-         هل هي زوجتك؟
-         من هي؟
-         تلك الفتاة السويسرية.
-         كلا.
-         رأيتك تلمس عقدها.
-         هل وظيفتك هنا هي رؤيتي؟ أم أنك تعاني من انحراف جنسي؟
-         دعنا ننس أنني رأيتكما. ما صلتك بها؟
-         أجلس بجانبها في هذا القطار البطيء.
ضحك الشرطي ضحكة سريعة. ضرب على ركبة ثيودور:
-         هيا أيها الغريب، لا تكن مُحتالا.. أنا أعرف هذه الأشياء.. (يضحك بطريقة تزعج ثيودور) إنكم تعبرون عن حبكم بافتعال المشكلات.. نعم.. أرى هذا.. فأنا أب لستة أبناء.
ثيودور مرخيا ساقه اليمنى على ركبته اليسرى:
-         أنا لا أهتم بتكوينك العائلي. أرجوك أريد البقاء وحيدا.
-         لن يؤسفني هذا. هل كنت أبا؟
-         يا عزيزي أنا لا أحب الخوض في هذه الموضوعات. هل كل الناس هنا آباء؟
-         إنك لا تدري. أنا أدري ما الذي يقلقك.
-         ممتاز. دعني وحدي.
-         هذا ما كان يقوله لي أولادي. فلتهدأ. إنك مهما فعلت لن تهيج أعصابي.
ثيودور يلتزم الصمت والشرطي يواصل الكلام ببرود:
-         لقد عشت ست فترات مراهقة. وإذا أضفنا إليها فترتي الخاصة ستصير سبعا. إنك لا تزعجني. لأنني أعرف أن الإنسان يغضب عندما يشعر بالتهديد. ينعكس خوفُه إلى شجاعة وهمية وصمتُه إلى صوت عال. الصوت العالي لم يزل يخيف الناس حتى لو كان صوت طفل أو رجلٍ جبان. يجعل القلب ينبض بسرعة والجسد مستعدا للفرار. لكن ما يُهددك؟ ما يرعبك إلى هذا الحد؟ (ثيودور لا يجيب). كل أبنائي كانوا يغضبون لأسباب مفهومة: حب الاستقلالية والدفاع عن القناعات. بعد أن كبروا عرفت هذا. كل واحد منهم الآن يلتزم بعائلة خاصة وأبناء ثائرين آخرين. لم أكتشف -وأنا في السبعين من العمر- أي وجود لهذه الاستقلالية أو القناعة. نحن يا عزيزي نعيش حياة ملتزمة. قد يزعجنا الاتزام بما يلتزم به الآخرون لأسباب تتعلق بالكبرياء والتمرد الصبياني. لكنه سينجينا من عذاب الوحدة.
أخافت ثيودور كلمة "صبياني"، وتمنى لو بصقها في وجهه، فقال وهو ينظر بعيدا:
-         ستة أبناء ولا أدري كم من الأحفاد! إنك من الأشخاص الأكثر أنانية الذين عرفتهم.
الشرطي يسيطر على انفعاله بهذا السؤال:
-         لماذا؟
ثيودور مبتسما:
-         لأنك تريدني الآن ابنا سابعا!
سمعا جلبة قريبة، انتصب الشرطي وأسرع إلى جهة الزحام. بقي ثيودور ممتعضا من الثرثرة الأبوية التي سمعها.
-         كلام فارغ.
قال بأنفاسه. ودفعه الفضول لاستكشاف سبب الجلبة من مكانه.

المشهد الثالث: طفلٌ يُصرع
ثيودور، الشرطي، أبٌ غاضب

رأى ثيودور ذلك الشرطي يسأل الركاب بسرعة حتى وصل إليه:
-         هل هنا طبيب؟
سأل ثيودور:
-         ما الخطب؟
الشرطي في عجلة:
-         طفلٌ يُصرع.
-         أنا سأراه.
الشرطي متفائلا:
-         أنت طبيب؟ هيا فلتسرع معي.
وهما يسيران نحو مصدر الجلبة:
الأطباء لم يعودوا يهتمون بحالات كالصرع في زحام قطار أو في مطعم قروي، إنهم يعتكفون على ورقاتهم العلمية كالعناكب. لم أتوقع أنك طبيب. هل معك بطاقة؟ حسنا ها هو الولد.
دنا ثيودور، قال بصوت واثق:
-         لا تفعلوا أي شيء. انفضوا قليلا أرجوكم.
كان الطفل في نهاية النوبة، اقترب ثيودور بلطف وجعله يسلتقي على يمينه. بقي منتظرا ولم يفعل شيئا. سمع أحدهم يقول:
-         محتال.
علا صوته وكان يشق الصفوف متجها إلى ثيودور:
-         ما الذي تفعله بابني أيها اللعين؟
لم يجب ثيودور. دفعه الرجل بيديه. حال الشرطي بينهما. أجاب ثيودور باتزان:
-         في نوبات الصرع لا نملك إلا أن نفعل هكذا وننتظر. أرجوك إنه عملي. هااا انظر إنه يسترخي.
انقضت الأم على ولدها بفزع وضمته إلى صدرها وهي تشكر الله. عاد ثيودور إلى مقعده. لحقت به أوسَّا. 


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.