لا أحد منا لم يسأل هذا السؤال الوجودي: لماذا نموت؟ ولا أحد منا الآن يستطيع أن يقاوم توقا شديدا في داخله إلى معرفة الإجابة. طالما نملك التقنية والعلم الحديث والأسباب التي لم يكن يحلم بها إنسان عاش قبل مائة سنة، فلماذا نموت؟
لكن هذه بداية غير جيدة، فهي ستغرينا بالخوض في الافتراضات والأساطير التي لا تقدم لنا شيئا. نعم، إن من حقنا أن نلتزم بموقف أو فلسفة أو مذهب يجيب على أسئلتنا عن الموت، لكننا هنا سنتكلم بلغة العلم وحدها. لذا سنبدأ بهذه الملاحظة: إذا كان الانتخاب الطبيعي natural selection يسعى في كل حالاته إلى الحفاظ على بقائنا والتحسين من آليات تفاعلنا مع البيئة التي نعيش فيها، فلم لا يسير في خط يجعلنا نزداد عمرا كلما ازداد نوعنا البشري وجودا على هذه الأرض؟ قبل ثلاثين ألف سنة -مثلا- لم يكن دماغ الإنسان بحجمه الحالي (تقريبا 1.3 كجم)، بل كان أصغر بكثير، لكنه أخذ يتطور باطراد مع قدرة الإنسان على المشي منتصبا واستعمال يديه. أما سن الموت، فلا يكاد يزداد إلا قليلا، ما السبب؟
الانتخاب الطبيعي يعمل لصالح المورثات (الجينات) وحدها. هذا يعني أن غاية الانتخاب الطبيعي الرئيسة هي نقل أكبر عدد ممكن من المورثات إلى الذرية في فترة زمنية هي حياة الإنسان. وهذا يعني أيضا أن كل ما لا يتعلق بهذه الغاية (طول العمر مثلا) غير مهم بالنسبة له neglected. لذا نقرأ في كتاب ريتشارد دوكينز عما يدعى"الجين الأناني selfish gene".
هذه النظرية (1952) تعرف بنظرية "تراكم الطفرات Mutation Accumulation" أو نظرية "ميدوير Medawar's theory" التي تعد من أول النظريات الجيدة في تفسير ظاهرة الموت أو ظاهرة عمر الكائنات الحية المحدود. والتي طورها عالم البيولوجيا التطورية جورج وليامس في 1957 إلى نظرية "متعددة المفاعيل Antagonistic pleiotropy".
قوة الانتخاب الطبيعي تصبح أضعف مع التقدم في السن، أي بعد الوصول إلى سن التكاثر وإنجاب الذرية (تمرير المورثات إلى الذرية) لا يعود الانتخاب الطبيعي مهتما بالإبقاء على حياتنا، طالما حققنا الغاية الأسمى من وجودنا البيولوجي: نقل المورِّثات. والطفرات المتراكمة هذه هي نتائج نشاطاتنا التي استطعنا في سن الشباب أن نقوم بها بكامل صحتنا وقوتنا، الآن نحن في سن الشيخوخة senescence لا نستطيع القيام بها. فمثلا، هرمون التستوستيرون Testosterone ضروري للرجل لكي يكون أكثر نجاحا في حياته الجنسية وأكثر تفوقا على أقرانه من الرجال، لكن من آثار زيادة هذا الهرمون في سن متأخرة أنه يزيد خطر الإصابة بسرطان البروستات. (ديفيد بوس، علم النفس التطوري). إذن، فنحن سنستمتع بحياة جنسية مثمرة وممتعة في سن الشباب، لكن الكثير من الطفرات ستتولد في غيابنا، ثم ستدهور صحتنا كلما كبرنا.
وبالرغم من أن الانتخاب الطبيعي قادر على تمديد عمرنا إلى ألف سنة -هذا افتراض نظري صحيح- إلا أن هذا ليس من غاياته، فهو كما قلنا، سيحافظ على بقائنا وصحتنا إلى أن ننقل أكبر كم من المورثات (الصفات الوراثية، الجينات) إلى الذرية، وبعدها سيكثف اهتمامه بجيناتنا التي صارت الآن في أبنائنا أو أحفادنا الشباب... وهكذا يعمل.
"دعونا نفكر في امرأة في سن العشرين وأخرى في سن الخمسين، يعمل الانتقاء بشدة أكبر على المرأة الأصغر سنا، طالما أن أي شيء يحدث لها قد يؤثر على معظم سنوات الإنجاب المقبلة عندها" (المرجع نفسه، ص222). فلو أن مورِّثة gene صارت نشطة في سن العشرين، وكان من نتائجها أن تؤثر على وظيفة القلب، أو الجهاز المناعي، أو الخصوبة، سيقاومها الانتخاب الطبيعي بشدة أكبر في المرأة الأصغر سنا مما لو نشطت هذه المورثة في سيدة بلغت سن اليأس. لأن أمام المرأة العشرينية مستقبل تكاثري طويل يحتمل أن تنجب فيه الكثير من الذرية، أما السيدة الخمسينية فلا يهم الانتخاب الطبيعي أن يحميها طالما لم تعد لديها القدرة على الإنجاب. هذا يبدو ماديًا وقاسيا، لكنه جانب يجب الالتفات إليه من حياتنا.
نظرية الطفرات المتراكمة تفسر لنا كيف تتلف أنظمتنا الحيوية في وقت واحد، وكيف يبلغ الإنسان في كل الحضارات والمجتمعات -وتقريبا كل العصور- الشيخوخة عند معدل عمر لا يكاد يتغير إلا قليلا. وأيضا تفسر لم يموت الرجال غالبا قبل النساء، فالرجال الذين هم أقدر من النساء على تمرير المورثات يستفيدون من محاباة الانتخاب الطبيعي لهم في سن مبكرة، ومن ثم يتعرضون أكثر من النساء للآثار الجانبية لهذه المحاباة. المرأة تنجب مرة واحدة في العام، بينما يستطيع الرجل أن يحصل على أكثر من مولود في العام الواحد.
فنحن نموت؛ لأننا نشيخ، ونشيخ؛ لأننا لا بد أن نفعل هذا! فصحتنا ستصبح أكثر عرضة للأمراض والآفات، والانتخاب الطبيعي الذي كان يحمينا منها في سن الشباب لم يعد يأبه بنا. ثم الانتخاب الطبيعي يضعف كلما تقدمنا في العمر؛ لأنه سيبحث عن مهمته (نقل المورثات) في أشخاص أكثر شبابا وأقل أمراضا.
وإذا ذهبنا بعيدا، وسألنا عن علة الموت نفسها، فستكثر النظريات، وستكبر الحيرة. لكن هناك افتراضات منطقية ستساعدنا، فما الذي سيحصل لو أننا لا نموت؟ وكيف سيكون حال الأرض لو أننا جميعا أحياء أصحاء، هذا يشملنا نحن البشر وغيرنا من الأحياء سواء كانت بهائم أو نباتات أو كائنات مجهرية. بالتأكيد، يحد الموت من هذه الكارثة التكاثرية التي ستتدمر الأرض وستملأ البر والبحر بالمخلوقات اللاهثة الباحثة عن الطعام والمتنافسة على الجنس والسلطة والثروة... إلخ.
وأخيرا، يجب الحذر أثناء تعاطي مصطلح عميق كـ "الانتخاب الطبيعي"، فهو ليس قوة مادية، أو روحية، وهو ليس شخصا أو إلها، وهو ليس إلا قانونا طبيعيا سائرا في الطبيعة، وهو "لغة" مجازية عبر بها تشارلز داروين عن آليات وتقنيات الحياة المختلفة.
ثمة نظريات أخرى لتفسير الشيخوخة، لكنني اخترت نظرية ميدوير ووليامس لقوتها وسهولة فهمها.
بعد كل هذا، هل نستطيع أن نطمئن وندعي أننا أجبنا على سؤالنا القديم: لماذا نموت؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق