 |
| في البدء أنت، تبقى دائمًا |
أبي العزيز جدًّا،
أكتبُ لك من تحت شجرة البرتقال وعيني على سماء قلبي المتعب، إنني لا أخفيكَ سرَّا أنني على وشك لقائكَ قريبًا -كما أرجو- وأنني أخيرًا سأعرفُ حقيقة أفكاري الغيبيّة، وأدعوك لعدم القلق لأنني سأحصي احتياجاتكَ، وسوف أحاولُ تلبيتها، كما سأروي لك ما حصل منذ أن أغمضتَ عينيكَ آخر مرةٍ، ولن أبخل عليك بتحليلاتي. إنني أفتقدُ طلاقة شتائمي عندما يعوزني المنطقُ وتهلكني الحربُ يا صديقي، وعندما أشعرُ أنني عاريةٌ في منتصف الطريق، وعليّ أن أُبرزَ هويتي وأجيب على أسئلة محرجة، وأن أكون صلبةً وشجاعة وأتذكر الأدعية المقدّسةَ، وألجأ إلى "طاسة الرّعبة" عندما يداهمني أحدهم من الخلف ويقول لي: "أريدُ قبلة"!
أفكّرُ أن أقصّ شعري قليلًا، وأن أطلي أظافري بالبنفسجي القاني، وأن أضع الأقراط الغجريّة التي اشتريتها لي يوم كنّا نتمشّى في سوق "الحميديّة" ونضحك على مزحةٍ سمجةٍ ألقاها علينا أحد الباعة، كما أفكّرُ في اقتراف الصمت لبعض الوقت حتّى أعبّر عن غضبي وأصير خفيفةً وحقيقيّة، وأودّ أن أشارككَ سعادتي الغامرة وأنا أستمعُ إلى هذه الموسيقى الإسبتنيّة، وأكتشف "زهرة غاردينيا في عتمة شعري" ثمّ أطلعك على آخر قراءاتي وأحكي لكَ عن رجلٍ أحبَّ مرةً واحدةً لكنّهُ اضطرّ للمضيّ لأنّ حبيبتهُ تشبهُ "شادي" الذي تكلّمت عنهُ "فيروز"، فكلاهما يا أبي توقّفا عند سنٍّ معين وظلّا صغيرَين، ما كان عليه أن يفعل؟ لقد صار كبيرًا وناضجًا ومحترقًا، ولم يعد بإمكانه أن يلبّي رغبات حبيبته الطفوليّة، ولا أن يخترع بهجةً تعادل بهجتها وهي تلعبُ في الغابة البعيدة، وتطارد فراشة.
يا أبي
الساعة الآن تكاد تكون الثانية والنصف ظهرًا، وتسألني صديقتي المهاجرة عن هديةٍ أتمناها قبل الموت الأخير كما تقول مازحةً مثل تعقّب: "أنت اخترت البقاء بكلّ سذاجة، عليك إذًا أن تتحملي العواقب"، وإنني أتساءلُ بكلّ إخلاصٍ عن فحوى هذا الكلام الفارغ، وعن حقيقة ارتباط الموت ببقائنا في مكان ما أو رحيلنا عنه مادمنا نحمل نعوشنا في داخلنا، ثم يغزوني خيالٌ طفوليٌّ يجعلني أرى نفسي أعبرُ هذا الجبلَ ثم يتلبّسني رداءٌ عازلٌ ضدّ الموت، وأراني أصرخُ بكلّ ابتهاج: "أنا لن أموت، موتوا أنتم"، وإنني أهديك الآن الأغنية الفرنسية التي أسمعها لأول مرة، وأفترض أن هذا الرجل الرقيق يقول: "اسمعي صوتي، تفاعلي مع فحيحه ولا تقاومي، تمايلي قليلًا فوق جثتي، ثم نامي بقربي لنعرف ماذا تكون الأبدية:، تنظرُ له باستنكار ٍ ويبدو أنها لا تفهم ما يرمي إليه، فيضحكُ باستهزاء وسط غنائه ثم يكرر ما قاله من جديد، ألا تجدُ هذا مدهشًا يا عزيزي؟ ألا تلحظُ كيف بإمكان الموسيقى أن تكون رائعة؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق