15‏/01‏/2016

نظرية إدارة الخطأ: بين شهوة الذكور وتمنُّع الإناث



للرسام السويسري المعاصر Till Rabus
القارئ المتابع لجديد نظرية التطور سيكتشف يوما بعد يوم السر العظيم وراء الإنسان الحديث. سلسلة طويلة جدا من الحيل التطورية ساهمت دائما في حل مشكلة البقاء. الكثيرون من البشر هلكوا لأنهم لم يكونوا جديرين بدخول لعبة الحياة، والكثيرون عاشوا وهم باقون الآن فينا. لعبة خطرة كهذه -حيث قوانين الطبيعة لا يمكن أن تتغير- سيكون المتغير الوحيد فيها هو الكائن الحي، لذا فليس بغريب أن نكتشف أننا لم نزل نفكر بالطريقة التي فكر بها الأسلاف قبل آلاف السنين، لسبب بسيط جدا هو أننا لا نملك آلية أخرى تضمن لنا أن نتكيف كما تكيفوا وننجح في نقل مورِّثاتنا إلى الأجيال القادمة كما فعلوا. 

تنبيه! قرأت في الأيام الأخيرة مقالة جديدة (2014) لعالم النفس التطوري David Buss يفرق فيها بين نجاحٍ بقائي survival success وآخر تكاثري reproductive success ويذكر أن المحرك الرئيس لعملية التطور بالانتخاب هو النجاح التكاثري لا البقائي. وعلى سبيل التبسيط، قد يعني النجاح التكاثري في حالة من حالاته إخفاقا معينا في النجاح البقائي (النشاط الجنسي ونظرية الطفرات المتركمة - راجع هذه التدوينة). [1]
هنا قد تتغير النظرة العامة للتطور ثم للإنسان، فبعد أن يكون الإنسان مجرد مخلوق بلا إرادة يسعى لأن يبقى عن طريق التكيف مع الحر والبرد وظروف الحياة، سيصير كائنا مُريدا ومختارا يسعى لأن يبحث عن الحب ويتكاثر ويربي ويؤسس المجتمعات.

هل حقا يبالغ الذكور في تفسير نوايا الإناث الجنسية؟ ولم يفعلون هذا؟ 

هذا سؤال يبدو مربِكا. لكن يسهل القول: نعم، الذكور مخلوقات شهوانية وترى الجنس في كل شيء، والإناث متحفِّظات وخائفات دائما. وبالنظر إلى اللوحة في الأعلى، إن الفنان الذي أبدعها ذكر! 

إذا كانت هذه هي الإجابة، فإن ثلاث فرضيات قد قُدِّمت لتفسير هذه الظاهرة، وهي:
أ. فرضية المبالغة العامة في الجَنْسَنةgeneral oversexualization hypothesis : الذكور يميلون إلى تقييم النوايا الجنسية لدى الذكور الآخرين ولدى الإناث أعلى من الإناث، الذكور يميلون إلى المبالغة في جنسنة العالم! لأنهم رُبُّوا اجتماعيا ليكونوا جنسيين بعكس الإناث اللاتي رُبين ليكن خجولات (Abbey, 1982, 1991).
ب. فرضية الوسائط media hypothesis: الذكور معرَّضون للصور الشائعة التي تصور الإناث خجولاتٍ ومقهورات بالرغبة الجنسية.
ت. فرضية  النموذج الافتراضي default-model hypothesis: الذكور يتفوقون على الإناث في الرغبة الجنسية ويستعملون رغباتهم كمقياس خاطئ لرغبات الإناث (Marks & Miller, 1987).

ولأن الفرضيات الثلاث السابقة تفتقر إلى دليل علمي يدعمها، تحاول الدراستان المنشورتان [2] في مقالة واحدة عام 2001 لأستاذي علم النفس David M. Buss و Martie G. Haselton الإجابة على هذا السؤال بتقديم نظرية إدارة الخطأ Error Management Theory - EMT. هذه النظرية ترى أن "الآليات النفسية مصممة -بطريقة قابلة للتنبؤ- لأن تكون متحيِّزة عندما لا تتماثل تكاليف الأخطاء الإيجابية الكاذبة false positive والأخطاء السلبية الكاذبة false negative على طول التاريخ التطوري". 

قبل أن نستعرض مقدمة ونتائج الدراستين، سنحاول تحليل النظرية. في علم الإحصاء هناك نوعان من الخطأ: إيجابي كاذب، وسلبي كاذب. يحدث الخطأ-1 عندما نفترض وجود شيء غير موجود، ويحدث الخطأ-2 عندما نفترض غياب شيء موجود. وهكذا ببساطة، عندما يصفِّر جرس إنذار الحريق في حالة غياب الحريق يكون قد وقع في الخطأ-1، وعندما لا يصفِّر في وجود الحريق يكون قد وقع في الخطأ-2. 

هذه النظرية تفترض أن الأخطاء المعرفية تنتج عن التحيزات التكيُّفية adaptive biases الموجودة حاليا لأنها أدت إلى ميزات متعلقة بالبقاء والتكاثر في الماضي. وانطلاقا من هذا الفرض تقدِّم فرضيتين لشرح نوع من التحيُّزات: مبالغة الذكور في إدراك نوايا الإناث الجنسية، وللتنبؤ بنوع آخر: تهاون الإناث في إدراك التزام الذكور. 


دعونا نقرأ هذا السيناريو الذي سيوضح الصورة العامة للفرضيتين، وللفرضية الثالثة أيضا... 

(يخرج نعيم من المقهى بعد احتساء كأس من القهوة الأميركية المعتدلة، يسترخي في الهواء النقي ويلمح فتاتين، إحداهما تعبر الطريق أمام المقهى، والأخرى نظرت إليه قليلا ثم واصلت القراءة. بدأ نعيم يحاول التقرُّب إلى الفتاة التي تقرأ؛ لأنه أحس بانجذابها إليه. وعندما وقف بالقرب منها وقال بعض الكلمات الرقيقة، صُدم بإعراضها عنه ومغادرتها المكان!
عندما عاد نعيم إلى البيت وجد مشكلة. أبوه يضرب أخته بتهمة نومها مع صديق لها، فغضب نعيم ودافع عن أخته مُدَّعيا أنها ربما تكون مظلومة).

أعترف بأنه سيناريو بارد وفاشل! لكنه قد يساعد في توضيح الفرضيات الثلاث لنظرية إدارة الخطأ. فأولا، مبالغة نعيم في تفسير نظرات الفتاة وإعطائها معنى جنسيا، وثانيا، تشكيك الفتاة في التزام نعيم وهروبها منه، وثالثا، تصحيح نعيم لنوايا أخته الجنسية. 

1- فرضية تحيُّز الإدراك الجنسي المبالغ فيه sexual overperception bias: الذكور لديهم تكيفات لقراءة النوايا قد صُممت للتقليل من تكاليف costs الفرص الجنسية الضائعة عن طريق المبالغة في استنتاج وجود النية الجنسية. الأسلاف الذين مالوا إلى ارتكاب الخطأ-1 (افتراض وجود نية جنسية في حال عدم وجودها) دفعوا ثمنا قليلا أثناء مطاردة جنسية فاشلة، ربما أضاعوا أوقاتهم أو خسروا جهدا كبيرا في التغزل. أما الأسلاف الذين ارتكبوا الخطأ-2 (افتراض عدم وجود نية جنسية في حال وجودها) دفعوا ثمنا باهضا لأنهم فوَّتوا فرصة جنسية ومن ثم فرصة تكاثرية = موقف نعيم من نظرة الفتاة. 

كان تقييم الذكور في الدراستين للنوايا الجنسية لدى الإناث أعلى بشكل دالّ من تقييم
الإناث لنوايا الإناث الأخريات، وأعلى أيضا من تقييم الإناث لأنفسهن.

 هذه النتائج تؤكد تنبؤات الفرضية 1.
2-  تحيُّز التشكيك في الالتزام commitment-skepticism bias: الإناث لديهن تكيفات لقراءة النوايا قد صممت  للتقليل من تكاليف الالتزامات الكاذبة عن طريق التهاون في استنتاج وجود نية الالتزام عند الذكور. إناث الأسلاف اللاتي استنتجن وجود نية الالتزام عند الذكر عندما لم تكون موجودة (خطأ-1) تحملن أعباء أكثر من اللاتي استنتجن عدم وجودها عندما كانت موجودة (خطأ-2). ففي الحالة الأولى تدفع الأنثى ثمنا باهضا نتيجة علاقة جنسية مع ذكر غير ملتزم: حمل في غير وقته، تشويه للسمعة، تدنّي القيمة التكاثرية، وأضرار تلحق بالطفل في غياب الأب المستثمر. أما في الحالة الثانية فربما تفوِّت الأنثى فرصة إقامة العلاقة مع بضعة ذكور صادقين ومخلصين لكنها ستبقى في منجاة من عواقب الخطأ الأول = رفض الفتاة محاولات نعيم. 
كان تقييم الإناث لنوايا الالتزام عند الذكور أقل بشكل دالٍّ من تقييم الذكور
لنوايا الالتزام عند الذكور الآخرين، هذه النتائج تؤكد تنبؤات الفرضية 2. 
3-  تصحيح نوايا الأخوات the sister correction: الذكور لديهم تكيفات لقراءة النوايا قد صممت لقراءة نوايا أخواتهم الجنسية بشكل صحيح (بدون مبالغة!). قد يكون الذكور الذين لاحظوا حزن أخواتهم اللاتي فُسِّرت نواياهم الجنسية بشكل خاطئ (اغتُصبن من قِبل ذكور بالغوا في إدراك نواياهن الجنسية) أقدر على حماية حقوقهن في الاختيار وحماية سمعتهن. أما الذكور الذين عمموا إدراكهم المبالغ فيه للنوايا الجنسية على كل الفئات –حتى الأخوات- فيمكن أن يكونوا أخفقوا في حماية مصالح أقاربهم = نعيم يدافع عن أخته. 
إدراك الذكور لنوايا أخواتهم الجنسية كان أقل بشكل دالّ من إدراكهم لنوايا الإناث
الأخريات، هذه النتائج تؤكد تنبؤات الفرضية 3.
مراجع: 

2 التعليقات:

أحتاج أن أقرأها مرة أخرى! ولكن حاليًا ما يقوله عقلي هو أن الافتراضات ال٣ برمتها معرضة للخطأ.
ليس لعدم تجانسها بل ربما لتداخلها الشديد وعزلها (أو محاولة عزلها) لهذا التداخل على هيئة افتراضات مستقلة تشرح الوضع الذي نحن بصدده. طبعًا هذا رأي غير مستند لأي تعمق ولكنه رأي من قرأ النص.

أدرك أن الإحاطة بجلّ العناصر المحيطة بمسألة من هذه الشاكلة في علاقات البشر شيء لن يتأتّ (لن! :)) وأن وظيفة الافتراضات أو التصورات النظرية هي تبسيط الواقع بغية فهمه بشكل أعمق ومن ثم إطلاق (أحكام) تفسر الواقع وتقربنا خطوة نحو الاستفادة من ذاك الواقع أو التنبؤ به.
ولكن هذا الإدراك عينه هو ما يجعل الاتفاق أو الاستناد إن أردت على فرضيات دون غيرها مشكلًا بل ومؤرقاً! هل لأن فرضية ما مستندة لأسس منطقية أو تجارب عديدة تصلح لتبويئها بمقام نظريةٍ مفسرة للسلوك؟ موقن أن الاختلافات الزمانية/الثقافية/المعرفية * حتى تدخل في صلب تشكيل هذه النظريات بل وحتى مراجعاتها بنية التطوير أو التفنيد. ولكن حتى تلك (الجهود) تصطدم بإشكالية "لم تم اعتماد النظرية س في تطوير أو تفنيد النتيجة الحالية؟". هي حلقة وسلسلة عويصة ولكنها -برأيي- في صميم جعلِ العلوم الإنسانية مشوقة وثرية.
..لهذا كله أحتاج قراءة ثانية للنص (حتى بدون الغوص في المراجع). النص نفسه ..صعب ولذيذ!

* مثلًا: اختلافات كتابة رمزي وتأويلاته للنظرية والفرضيات + اختلافات قراءة هيثم للنص. لو كنا شخصين من اليابان + روسيا على الترتيب وكلانا لغته الأولى ليست الإنجليزية (لغة النظرية) والنص المقروء من قبلي هو ترجمة لليابانية للروسية. أضف لذلك عنصر الزمن: لو قرأت نفس النص بعد ٥ من السنين، كيف لي/لنا تحسس الفروق وهل من طريقة للاتفاق على أن الفروق مهمة أم لا في فهم وتفسير السلوك الإنساني الذي تناوله النص .. (هذا كله على افتراض أن كلينا يعمل في حقل نظرية التطور..

==========
هيثم سيصمت الآن.. ويغادر :@

مرحبا بك صديقي الروسي :)
تساؤلاتك مثيرة، ولكن بما أنك وعدت بالعودة وقراءة التدوينة مرة أخرى فلن أتسرع بتعليق مسهب.
كل ما أود قوله -وشكرا لأنك تعطيني فرصة توضيح- أن نظرية EMT هدفها الأول هو التحقق من سؤال: هل يبالغ الذكور في استنتاج/إدراك النية الجنسية لدى الإناث؟
منطلقةً من احتمال وجود أخطاء أنتجت فوائد تطورية في السابق فثبتت برغم كونها أخطاء.

إذا كانت الإجابة نعم، فإن هذا يولِّد فرضية ضرورية، وهي أن الإناث سيكنَّ حذرات في معظم الحالات، لأن ذكرا متساهلا قد يفسر نظرة عابرة على أنها دعوة إلى لقاء جنسي ثم سيفرُّ بجلده! فتبقى الأنثى ضحية حماقتها.
التطور عزز وجود حس الحرص والانتباه لدى الإناث لهذا السبب.

وأيضا إذا كانت الإجابة نعم، فإنها تولِّد فرضية ثالثة، أي فرضية تصحيح الأخوات. فكما رأينا في السيناريو، من الجيد للأخت ولذريتها أن يكون الأخ دقيقا في تفسير نواياها الجنسية.
وهذا يؤكد تداخل الفرضيات، وأيضا لا ينفي عنها التعرض للخطأ كسائر الفرضيات.

شكرا لك هيثم.

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.