01‏/11‏/2016

لوحات حاتم




أكتب أحيانا لأجل الصورة، ألملم الحروف وعلامات التنوين لأعبر عن انفعالاتي وأربطها بصورة أحببتها. أكتب عن الليل، مثلا، لأستعير لوحة من فان جوخ، وعن الجسور لأستدعي لوحات مونيه، وعن غموض الملامح لأبحث عن صورة مناسبة لرينيه ماغريت. لكنني الليلة سأعلِّق الصور على ظهري المكشوف لأكتب. لأنني حقا أشعر بجفاء الإلهام.

حاتم هو صديقي في الكلية، يشاركني دراسة الطب ومقترحات الكتب الفكرية وبعض الجَدَل. عرفته منذ أكثر من ثلاث سنوات أنيقا وهادئا ومتحمسا لأفكاره. أعجبني فيه اطِّلاعه الواسع وتقديره للفنون وتميُّزه في النظرة إلى الأشياء حوله. إذا واجهتم صعوبة في تخيُّله فاستذكروا (خواكين فينيكس) بطل فيلم (Her) الذي ظل يبحث عن عالم آخر يتواصل معه حينما لم يكفه كل العالم الطبيعي. 
قبل عدة أسابيع، فاجأني بأسماء جديدة في عالمه: "الوجه الآخر للقمر"، "هذه هي توليبي". فصُعِقت. لم أكن أتوقع أن يتجه حاتم إلى الرسم. يجوز أن يذوب في حياة اللوحات والرسامين ليشبع أعصابه بالألوان والفراشات والجبال، لكن أن يصير رساما فجأة؟ هذا ما حدث. أرسل إليَّ مجموعة من اللوحات الجديدة مرفقة بمجموعة من أغاني فرقة الروك الشهيرة (Pink Ployd). 

"هذه هي توليبي" لوحة بسيطة، حيث تتوسَّط زهرة توليب مساحة هادئة من لونٍ بارد لم أجد له اسما في ذاكرتي. يمزج حاتم في هذه اللوحة بين الصمت والكلام، بين التجريد والتفصيل. يمكن اعتبار "هذه هي توليبي" لوحة شخصية لنبرر العجز عن الخوض أكثر في أسرارها. لكننا لن نتجاهل سحرها. عندما رأيتها خطرت ببالي فكرة: لم لا يتوقف الناس عن تأليف الكتب ويختصرون كل شيء في غلاف جميل؟ ربما تكون الفكرة أشد غموضا! 


آمنتُ دائما بقوة الفن ليس على إنعاشِ أيامنا الخاملة فحسب، بل على إيجاد معنى فريد لحياةٍ واحدة لا آخر لها. قطع الإنسان، ولم يزل يقطع، أشواطا كبيرة من وجوده على هذه الأرض فنَّانا. أصبح البشر فنانين قبل أن يكونوا فلاسفة وعلماء وقتلة. رسموا قبل أن يكتبوا، صمتوا طويلا قبل أن يستطيعوا الثرثرة. يعيش الفنان في سلام مع نفسه. سلام وجودي على الأقل. قد يكون كئيبا أو فقيرا أو متشرِّدا لكنه لن يشعر بأن ذاتَه خذلته أو أنه يخذل ذاته. كيف وهو ينام على مرتاحا على لوحاته أو كتبه أو أغانيه أو منحوتاته كما ينام نبيٌّ على جبال من الحسنات؟ 



إن النبيَّ والفنان يدعوان لنفس النوع من الأفكار: تلك الأفكار التي تعينك على مسالمة الوجود وتضمن لك الخلود. إنهما يتحرَّقان لأن يدرك الناس ما يدور في ذهنيهما. ينتظران الوحي قليلا أو طويلا ثم يجيء ويريح جسديهما الكادحين. يسهر النبي راكعا لأنه أدرك أن الحياة يجب أن تكون أطول من الزمن، لأنه يدرك ويعلِّم الناس أن تدرك أن الذوات العظيمة الصبورة الواسعة يجب أن تفوز بالخلود. ويسهر الفنَّان لأنه يدرك أن كيانه الروحي: أفكاره، انفعالاته، حاجاته، احتجاجاته، ظلامه، نوره يجب ألا يندثر لحظة الموت. الموتُ يرعبُ الفنان ويُفرح النبي. لا يريد الفنان أن ينتهي في لحظة واحدة "كما يموت البعير". يريد الفنان أن تشعر به الأجيال القادمة.. أن تتصفَّحه وتسمعه وتتأمله وتلمسه وتشمَّه ما دامت الحياة. 




لم يسمِّ حاتم كل لوحاته. لم يوقِّع أسفلها. وربما ينتبه إلى هذه الخطوات المهمة لاحقا. فالتاريخ لا يرحم الأشياء الثمينة المجهولة. والتخمين موهبة بشرية قديمة. قد تفتنني الأوديسَّة لكنني لا أرتاح لخلاف العلماء حول كاتبها. أحب أن أضع يدي على توقيع (بيكاسو) البسيط. الاسم يعطي العملَ الفني كينونة. الطبيعة تُبدعُ كل يوم أجمل الأعمال: ندف الغيم وسراب الصحراء وأنين الرياح في الغاب، لكننا لا نستطيع فهمها ككينونة تنفعل وفق فلسفة مفهومة. قد نرى الكينونة في الطبيعة لكنها كينونة غير ثابتة وغير مستقلَّة، تفتقر إلى أبسط مبادئ التواصل. نستطيع بناء صومعة بسيطة فوق تلَّة بعيدة لفهم كينونة الطبيعة، لكن من ذا يرغب في بناء صومعة على لوحة؟ 



لا معنى للجبال ذات القمم المدببة التي يكسوها الضباب حيثُ يعيش حاتم. لا معنى لهذه الصورة بالنسبة لعينيه، لكن قد تجدون المعنى هناك... ربما في تلافيف دماغه التي التقطت هذه الصورة في بداية فيلم أو في ألبوم صور قديم أو في حلم. هذه اللوحة طقس متحرِّك يكاد يزيد برودة أو يقل. أكاد أرتعش من الخشوع والصقيع. أكاد أبحث عن شمس تبتلعني. يعيش حاتم في نفس مدينتي، لذا أدركُ تماما حاجته اللاواعية في التلحُّف بجبلين باردين والشعور بألم مفاصل طبيعي ولو مرة واحدة. سأتدخَّل هذه المرة وأسمِّي هذه اللوحة "الحاجة إلى برد". وأرجو أن تلاحظوا توقيع (H2) أسفل اليمين. قد يكون لهذا الحرف علاقة باسمه، أو إذا شئنا الذهاب بعيدا، بعنصر الهيليوم. عنصرُ النجوم والبدايات والانفجار العظيم! 



أول انطباع شعرت به تجاه هذه اللوحة هو أنها تجسِّد الوحشة. قرصٌ ذهبي يضمُّ زهرة بيضاء وفراشة. تبدو الفراشة جامدة محنَّطة ممنوعة من الحركة برغم إغراء الرحيق والنور. في مركز القرص ثمة ثقب صغير. قد نسمعُ صُراخا إذا وضعنا هذا القرص في جهاز فونوغراف؟ ربما أراد الفنان أن يُسمعنا صوت اعتراضات الفراشة ورفضها لهذه الوحشة. أو ربما أراد المزج بين عناصر الطبيعة وعناصر الصناعة ليصدمنا بحقيقة عدم انسجامهما. هذه اللوحة سجن. أنا أحترم الفراشات وطريقة حياتها. لذا يزعجني حبسها. لكن ماذا لو كان حاتم يريد أن يصور لنا فراشةً تؤدي عرضًا حركيا على خشبة مسرح؟ ما المانع؟ هذه البقعة المركَّزة من الضوء تشبه الأضواء التي تطارد الراقصين والممثلين الصامتين. والفراشة لم تبدأ الرقص بعد. 





* للتواصل مع حاتم على تويتر: Z_AXIZ@

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.