10‏/04‏/2016

تفاصيل (9)~ صديقتي وأنا



المجدُ لنا، لخيالنا، لحقيبتي الفارغة
 الشرفةُ عاليةٌ ومكسوّةٌ بالرخامِ الأبيض الذي تتخلل بشرته خيوط من العسل، ومن السّهل جدًّا أن أسند ذراعي على حافّتها الواسعة التي ترتدي هي الأخرى رخامًا رماديًّا نظيفًا، كانت صديقتي قد عطّرتهُ قبل أن آتي ، لكنني لم أستطع تمييز الرائحة تمامًا.
عند الزاوية اليمنى -حيثُ اخترنا الجلوس- كانت تتوضّعُ طاولةٌ صغيرةٌ مغطّاةٌ بملاءةٍ بيضاء يقتحمها الصوف الناعم ويشكّلُ لها حاجزًا حلوًا، عليها كأس شفافٌ يعانقُ زهرتين استخدمنا إحداهما في معرفةِ الحبّ من عدمهِ، وكان أمرًا مُجهدًا بعض الشيء لأن الزهرة الورديّة العنيدة كانت ممتلئةً بالأوراق، يتحلّقُ حول الطاولة كرسيّان مختلفان، أحدهما مليءٌ بالزهور الملوّنة، والآخر -الذي هو لي- يسيطر عليه اللون البنيّ القاني.

كان الشارعُ أمامنا طويلًا جدًّا، يبدأ بشجرة "زنزلخت"، وينتهي بفُرجةٍ واسعةٍ تُظهرُ السوق ومحلّات الطعام، وصفًّا لامعًا من السيارات، وترِدُ من خلالها رسائلُ المُشاةِ، وهمومُ العيشِ، وتدور عجلةُ الحياة دون توقفٍ، كنتُ أتدلّى بين الوقت والآخر لأبتسمَ لظلٍّ مُتَخَيَّلٍ، لأدعوَ طائرًا صغيرًا حتّى يفترش يدي المعتّقة بحلاوة "البيتي فور"، فيأكل إصبعًا أو إصبعين ويصير حمامة، لكنّني كنتُ أعودُ في كلّ مرةٍ لأقابلَ وجه صديقتي الشهي الذي يشبهُ شهر كانون بكلّ ما فيه من حنين ومدافئ.

قدّمت لي فنجانًا من القهوة، احتسيتهُ على مهلٍ وأنا أفكّرُ في ذوبانه البطيءِ في حنجرتي، وعبوره بعد ذلك إلى مركز الأسرار وتحوّله إلى ذاكرة بنيّة تحملُ بعضًا من أفكاري الخالدة، وكنتُ أتعجّبُ تمامًا من شكل الشمس المتكورة بخجل تام، ومن التباسِ التوقيت ودهشة السماء، ولم أكن أستطيعُ أن أجزم فيما إذا كنّا نتجاذبُ أطراف العمر فجرًا أو قُبيل الغروب،وتذكرتُ سؤال صديقي المتكرر عن هذا وابتسمت، لكنّ طائرةً مروحيّةً وقحةً كانت تجيب على حيرتنا، ثم تغيبُ بين الغيوم وتُسقطُ لعناتها المستمرة.

شربنا بعدها الشاي في أكواب غريبة الشكل، وقد كان المفعول التنبيهي عندها قد ذبل واختفى، وصارت رشفة الشاي مخدّرة، تبعث على الاسترخاء وتحفّزُ النوم، لكنّ صديقتي أيقظتني بحديث مضحكٍ لم أعد أذكرُ تفاصيله، لكنني أحملُ طعمهُ على فمي وأستعينُ به الآن -وأنا أكتب- حتّى أضحك مجدّدًا، لم نأخذ الكثير من القرارات الجادة بشأن أي مشكلةٍ طرحناها، بل كنّا ننسابُ ببساطة ونحنُ نقرطُ حبات الذرة المحمّة، ونستمعُ لصوت الأحاديث المقدسة التي تدور في داخل كل منّا.

مضت ساعتان من هذا العمر الهزيل، وتبدّل النور إلى ظلام، سعل قنديلٌ برتقاليٌّ في بداية الطريق، وتكاثرت خطوات المارّة بفعل عزاءٍ قريب، فاتفقنا ونحن نمجّدُ الحياة على الغداء في المطعم البحريّ الوحيد، واستمتعنا ونحن نتحدّثُ عن مدّ "المايونيز" الذي سننعم به دون أن نحسب لدسامته حسابًا، ثم ضحكنا على نكتة "البقرات الصغيرات" التي استمدّيناها من ذاكرتنا، وعندما مرت طائرةٌ أخرى ضحكنا أكثر إذ كنّا نجاكرها بالعلو، وندرك أن فتاتين ارتشفتا القهوة والشاي سيكون من الصعب أن يخونهما الحدس وتقوى عليهما بضع رصاصات طائشة، تحوّل ضحكنا بعد ذلك إلى صمتٍ بسيط، لعبتُ خلاله بنهاية سترتي الطّحينيّة، وعبثت هي بأزرار هاتفها الغبي، ثم رفعنا بصرنا وخضنا في حديث آخر.

هكذا حتى تأخر الوقت، سلّمتُ عليها سلام البدايات المبهرة، وسلام الأصدقاء الذين لا يديرون ظهورهم إلا ليعودوا من جديد، منحتني الزهرة الثانية بعد أن لفّتها بعناية أم وابتسمتُ في المقابل، وضحكنا بشدة عند الباب حين قلتُ لها: "بينزل المطر لحتّى إرتاح منك"، وكنا نعتقد أن هطوله مزحة، لكنّه هطل بعد ساعة -فعلًا-، كان ناعمًا ومقتضبًا، هذا المطرُ الذي يمسّ الأرض بطريقةٍ خاطفةٍ وتكون نيّته أن يُبرز رائحتها فقط، وم ثمّ يذوي تاركّا لمسته وإصبعه السادس الرحيم، وكأن لسان حاله يقول: "هزّينا الورد لحتّى تشمّوه"، لقد هطل حقّا في نيسان وهذه ليست كذبة!                                                                                                                                                                                             

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.