14‏/04‏/2016

أرق




أشعرُ بالغيظ يا أمّي. نامت كل عصافير الدّوري وأنا لم أزل مستيقظة، ومع هذا فإنني لا أغرّد. أشعرُ بألمٍ في جبهتي سببهُ فكرةٌ عارضةٌ في وقت فائت من هذا اليوم. هل تدركين كميّة الهشاشة؟ أدور حولي كي أسقط لكنّني لا أفعل، رقصتُ على عشر أغنيات، شربتُ مشروبًا غازيًّا بعد أن غطّستُ فيه شرائح الليمون، حفظتُ بيتًا من الشّعر لا أتذكرهُ وأنا أسردُ في هذه اللحظة، وأعجبتُ بعبارة "طعم عتّقهُ الوقت"، والتي أراها الآن مقزّزة ونمطيّة، كما رتّبتُ خزانتي بطريقة المصابين بهوس الألوان، إنها يا أمّي مرتبةٌ على نحوِ مزعجِ جدًّا. غيّرتُ أقراطي مرتين وانتهيت دونهما لأنني شعرتُ فجأة بثقلهما وشعرتُ أن جحيمًا ينبتُ في أذني ويعوي دون توقّف.

كتبتُ رسالةً طويلةً إلى صديقي أفصحتُ فيها عن اشتياقي الشديد كأنثى لا تشتاق في العادة، واعترفتُ بأسرار فساتيني، وتحدّثتُ بحماقةٍ عن أقلامي الملوّنة وكم شعرتُ بالفزع حين باغتتني قطّة سوداء في الأسبوع الماضي، وعن إحساسي الغامر بالاسترخاء حين عرّضتُ شعري للهواء الساخن، وقلتُ له كم مرة استحضرتهُ وما هي المطاعمُ الشعبيّةُ التي ذهبنا إليها،  كيف أكلنا بنهمٍ ودقّينا كؤوس الشاي وشربنا نخب الصّحوة، وكيف ركضنا في ذلك الشّارع الخلفي دون أن نخاف من عتمة الحرب، ثم أحصينا النّملَ الذي كان يتمشّى على جدار الفجر، وكيف غرقنا في صمتنا أمام قاربِ يموجُ ولا يبحر.
قرأتُ الرسالة ثم مزّقتها، وبعد ذلك كتبتُ رسالةً أخرى إلى صديقتي أسماء أطلعتها فيها على ازدرائي الشّديد لذكرياتنا السّخيفة، وكم وداعًا تبِعَ تلويح يدينا، وكم أغنية ذاع صيتها وهي تحكي قصّة الانقطاع بعد الوصل، وقصّة التلاشي، ثم أخبرتُها عن رغبتي في تناول طبق فاخر من "البيتزا"، وحاجتي إلى الحصول على مكتبةٍ جديدة.

تفقّدتُ وجهي، مررتُ أصابعي على الحفرة الصغيرة المتوضعة تحت عيني اليمنى وكانت معبّأة بالقهوة. شعرتُ بالانتماء إلى عمقها وأنني أخيرًا قادرة على البكاء الشديد والحاد لأسباب غير مفهومة، وقادرة أن أتعلّم وأصير أقوى. يا أمي نحنُ -أنت وأنا- جميلتان جدًّا وطفلتان، يكادُ شعرنا يصيرُ شمسًا، وتكادُ أيدينا تحوّلُ الجدار إلى ربيع، والأطفال حين يحزنون يقلقون ويصرخون طوال الليل، ولا تنفعُ معهم علاجاتُ البالغين أبدًا. إنهم ينهمرون من الداخل ولا يملكون اللغة الكافية ليعبروا عن أسبابهم، فردّي الباب الخشبيّ اللعين، وأغلقي النافذة وأسدلي الستارة العسليّة. أنا نور نفسي، وقررت أن أسهر مع خوفي، مع فيروز، مع كتابٍ قديم، وساعة ضبطتُها على نقاش طويل وحاد، وقد أصفعهُ -ذلك الظلّ المغرور الذي يظهرُ في كلّ الأوقات-، هذه معركتي وسوف أنهيها الآن.

سوف أرقصُ حتّى يذوب جسدي على الأرض ويصير بخارًا، أو رملًا ملوّنًا، أو كلمةً عالقةً في حنجرة خصري الذي عجز عن ترجمتها كما هو مُنتظَر، وما هو الانتظار؟ أعتقدُ أنه خيالٌ نتغذّى عليه حتّى نُلقي ببعض الحمل على الآخرين، لكننا بعد كلّ سقطةٍ نتعلّمُ ألا نؤجّل شيئًا إلى يومٍ آخر وألا نذوب في شخصٍ سوانا. إن مسألة الذوبان في سوانا أمرٌ موجِعٌ حقًّا وعبثي لأنه لن يعطف علينا كما نفعل وسوف يكون قاسيًا وماضيًا في قسوته دون توقّف، ولن ننجو يا أمي. صدّقيني لن نفعل. هل نجوتِ أنت بعد موت أبي؟ هل تعترفين الآن بفرحةٍ كاملة؟ وهل يجرّدكِ فستانٌ جديدٌ وملونٌ من بؤسك؟ وهل تستعيدين بهجة الأشياء الصغيرة التي تركع تحت قدميك، وتبجّلين الأصدقاء المخلصين الذين يهتمون بعودة ابتسامتك، وتستمتعين بما أورثتهُ لك نفسك من روحٍ هائمة وخفيفةٍ يحلفُ بها الطيرُ ويغشاها الجمال؟ لقد فقدتِ كل هذا، وإنك في داخلك غير راضيةٍ عن الابتعاد حتّى وإن قلتِ أنه "قدر". لقد رحلتِ أيضًا بطريقةٍ أو بأخرى. لأننا حين نفقدُ من نحب بهذه الطريقة القاهرة نصيرُ أعداء أنفسنا أولا، ويأخذنا الغرور بحيث لا نعود بسطاء كما كنّا، وهذا ما أقسمتُ ألا أفعلهُ منذ أن ماتت جدتي قبل خمس سنوات.

إنني أشكرُ أبي الرقيق الذي علّمني ألا أخاف الموت/ موته أيضًا، وألا أشعر أنه ندٌّ لي. اصطحبني في مشوارٍ طويل إلى البساتين حيث راقبنا الطيور وغياب الشمس، وتحسسنا العشب النديّ وقطفنا شقائق النعمان، وخضنا في الأحاديث العادية، وكان يستمع لي باهتمام شديد ويتعامل مع هزائمي السخيفة على أنها هزائمه هو، ثمّ غطّ في صمته الطويل وقال: "هل تؤمنين بفلسفة الرسائل؟ لقد أنهيتُ رسالتي يا حلوتي، بطريقةٍ ما، لم يعد عندي ما أقوله أو أفعله، ولقد سعدتُ جدا بآخر رحلةٍ قمتُ بها برفقة أحبابي، لقد كانت رقصةً مدهشة، تلويحةً صادقة جدا، وأشعر الآن أن أعصابي تدخلُ مرحلة استرخائها واختلالها، ولن يضرّني أن يضيع مني الزمن أو يهبط صدري لأنني حظيتُ الآن بتلويحة أخرى، وصادقتُكِ بحيث تبقين "أنت أنت"، و "أنا أنا"، لذا أنا أثق بشوقك وأعرف أنك سوف تشتاقين إلي، وليس لنفسكِ التي تركتِها في داخلي".

قال ذلك وضغط على يدي، ثم قمنا نحو الطريق الواسع وخطونا بكل مرح، كان وجهه أشبه برغيف خبزٍ تناولته في قرية جبلية، كبيرًا ونقيًّا وشهيًّا، وكان قميصهُ العسليّ المقطع يشبهُ طبقًا من الحلويات الفاخرة التي منعتها الحرب عنا لكنه كان ثريًّا بها دوما. رحل بعد عشرة أيام على سريرٍ أبيض وعبر إغماضة طويلة، وحين كان المنزل يفرغُ من المحاضرات الفظيعة كنتُ ألجأ إلى الحديقة فأجلسُ قرب شجرة الغاردينيا وأغني، وحين كنتُ أغني كنتُ أتفاعل مع نفسي كثيرًا ويغشاني شعورٌ بالفرح إذ كان بمقدوري أن استرجع أبي وأتنبأ بشكله الآن، وقد كان يبدو لي هادئًا وهو يجلسُ على أرضيةٍ زرقاء تحت نافذةٍ مفتوحة، يدخن سيجارته ويشربُ قهوته، وهو يكتبُ مسرحيةً جديدة، أو يصوغ قصيدة بحريةً يهديها لأمي في عيد ميلادها بعد مئة عام. كان مشغولًا كما أعتقد، إن بكاءهم وأسئلتهم الحمقاء لم تؤثر على مجرى يومه أبدًا ولم تجلعه يرفع رأسه حتى يرى ما يحصل حوله، فلقد وجد رسالة أخرى، رحلة مختلفة يقطعها في داخلي كوجودٍ مستقل، ونكون نحن -هو و أنا- جبلًا يلتقي بشاطئ بحر، بكلّ ما في ذلك من الهيبة والقداسة والتفريق.


على الهامش: تفوّهت فيروز بأنقى عباراتها حين قالت "أنا مش سوده بس الليل، سوّدني بجناحو" وطربتُ لذلك حتى أضأتُ بالكامل واحترقت، نظر لي جدّي الذي كان يكرهُ فيروز وقال بشماتة: "هاد يلي بيسمع كلامها"، ضحك عصفور نابتٌ من جلدي ولم أرى الجنة ولم أرى الجحيم أيضًا، إنه شارعٌ خلفي ويدي مبسوطة حتّى آخرها!

6 التعليقات:

أرق.. بلا حل؟
هل هو نتاج المعادلة (أهي معادلة صحيح؟) السهلة - الصعبة: مدخلات / عمليات / مخرجات؟ ألنا أي تحكم -ولو جزئي- بالعناصر الثلاثة هذه؟

شكرًا للتدوينة، جميلة أكيد.

قد يكون "أشبه برغيف خبزٍ تناولته في قرية جبلية" أكثر سطر أعجبني اليوم.

على "على" الهامش:
fairuz's voice is over-rated; it is! :)

أزال المؤلف هذا التعليق.

عجبتني: الأرق نتاج عفوي وفيها واقعية (لحصولها مع الكثيرين)

فيروز صوت جميل، وجدًا.
ولكن heavenly voice وشاكلتها تؤدي بي إلى ال over-ratedness:)

*أقحمت كلمة جديدة على اللغة!* :)

لقد راح التعليقُ في حال سبيله حين أحببتُ تعديل خطأ إملائي .. ولكن يبدو أن فكرتهُ وصلتْ، وفكرته شيء لم أكن أنوي تعديله

فيروز بالنسبة لي صوت سماوي ومقدس وهذا لا يرتبطُ بجماله في كلّ الأحوال. إن آخر ما أفكر فيه حين أسمعُ فيروز هو تقييم انبعاثه فيما إذا كان جميلًا أم لا. لقد ارتبط بكلّ ذكرياتي وحياتي الماضية والآتية -حسب ما أعتقد- لكلّ شخص وموقف "لقب فيروزي" في بالي. حتّى أنني أستمعُ إلى الأخبار السيئة بصحبتها. هل تدركُ كمية القداسة في أن تغنّي فيروز "ما أحلى الرجعة بكير والدنيا رفوف عصافير" تزامنًا مع خبر انفجار حافلة أو اندلاع حريق؟ إنه شيء مدهش حقّا.

صباح الخير

كنت قد كتبت الرد من على البريد الإلكتروني (حيث وصلني الإشعار بوجود تعليقات جديدة) ونقلته ونشرته على التدوينة قبل أن ألاحظ أن تعليقك قد تم حذفه، معذرة.

لن أقول إلا أن وجود مثل ذاك الإدمان اللذيذ شيء جيد بنهاية المطاف. هو إدمان إيجابي!

إنه حشيش مصرح به دوليا
كنت فقط أشير إلى سبب غياب التعليق
أهلا بك دوما

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.