20‏/03‏/2017

عذرا أيها الأطفال: هذا العقل ليس للإنجاب



لا أستطيع رؤية طفل جميل بدون أن أتألم على عجزي عن الحصول على طفل مثله يحمل صفاتي الجيدة... وأمراضي.
علم النفس التطوري هو مجال شاب ومتحمس بدأ على يد داروين بشكل رسمي لتفسير بعض المظاهر الشكلية التي لا تبدوا مفيدة إذا ما قورنت بالطاقة والجهد التي تتطلبها (ذيل الطاووس، مثلا). ثم استمر بعزيمة قوية وجهود جبارة محاولا تفسير كل العواطف والظواهر النفسية مفترضا أنها كانت تكيفات في زمن الأسلاف. أسس داروين مبدأ الانتخاب الجنسي (natural selection) ورأى أن الضغوط والظروف التي تفرضها الطبيعة علينا (الانتخاب الطبيعي) ليست كافية لتفسير كل شيء. ينجح الانتخاب الطبيعي في تفسير لماذا تملك بعض الطيور مناقير طويلة ولماذا تملك بعض الكلاب حاسة شم قوية، لكنه لا ينجح في تفسير لماذا نغضب عندما ننفصل عن حبيباتنا ولماذا قد نفكر في إيذائهن وقتلهن إذا قررن مواعدة رجال غيرنا. هنا يأتي دور الانتخاب الجنسي ونظريات علم النفس التطوري. كلما قرأت أكثر في هذا العلم اكتشفت أن المرحلة التطورية التي وصلت إليها عقولنا في العصر الحديث قد تكون مشكلة أمام الهدف الأساسي من وجود الكائنات: التكاثر والبقاء. يرى الباحثون الآن أننا نلجأ إلى اتباع استراتيجيات بدائية (mating strategies) جدا لجذب أفراد الجنس الآخر بعد أن نتأكد من أنه مصدر تكاثري ثمين ويستطيع أن يساعدنا في إنجاب ذرية وتربيتها حتى تكبر وتصل إلى سن التكاثر فتتولى أمورها بنفسها. لكن ثمة حالات تتعارض فيها الغريزة القديمة مع العقلية الحديثة. واحدة من هذه الحالات هي الغضب عند الانفصال عن الشركاء الرومانسيين (الحبيبة أو الزوجة). وفقا لديفيد باس في كتابه (The Murderer Next Door)، يبذل كل من الرجال والنساء جهودا كبيرة في عرض امتيازاتهم في سوق التزاوج. يحاول الرجل الإيحاء إلى المرأة بأنه شجاع ولديه الكثير من الموارد كالمال والأراضي، وأنه متاح في الوقت الحاضر للاقتران. كما تحاول المرأة إبراز إثارتها والإيحاء للرجال الآخرين بإمكانية الاقتران بها، لكنهم ما إن يقتربوا منها وتختبر قيمتهم التكاثرية حتى ترفضهم وتقترن بالرجل الوحيد الذي وجدته مناسبا ليكون أبا لأبنائها. تتعب المرأة في حمل الأطفال وإرضاعهم وتربيتهم وتمريضهم وإطعامهم حتى يكبروا. لذا تملك قوة المساومة في سوق التزاوج فهي لا ترضى بالاقتران بأي رجل حتى لا تندم على إنجاب ذرية بلا أب كفء يسخر موارده وجهوده لرعاية ذريته. هذا بخلاف ما يفعله الرجال أحيانا في علاقاتهم قصيرة المدى، عندما يكون كل همهم إشباع شهواتهم الجنسية [1]. في بعض الحالات، تتخلى المرأة عن الرجل أو تخونه مع رجل آخر لعدة أسباب ليس هذا المقال مكانا مناسبا لسردها. يغضب الرجال بطرق مختلفة: بعضهم قد يضربها، بعضهم قد يقتلها، بعضهم قد يحاول محاورتها، وبعضهم قد يحاول نسيانها ومواعدة نساء أخريات. تبدو هذه الحلول بديهية لأي واحد منا، ومسلية بالنسبة لعلماء النفس التطوري. لكن هل تتفق مع عقلياتنا المعاصرة ومعاييرنا الأخلاقية والحضارية؟ دعونا نتعمق في التحليل. يغضب الرجل من خيانة المرأة لأسباب عدة، منها: أنها ضيَّعت موارده لأجل رجل آخر، وصنعت له منافسين في سوق التزاوج، وقد تكون تركت أطفاله وحمّلته كل المسؤولية. يبدو هذا معقولا. لكن ماذا يفعل الرجل ليعوض النقص الذي أحدثه غياب حبيبته أو زوجته؟ ذكرت هذا قبل قليل. إذا افترضنا الآن أن معظمنا سيحاول فهم أسباب هجران الشريكة أو خيانتها، فإن الكثيرين منا قد ينتهون إلى مواعدة غيرها من النساء والقليلين جدا سيلجأون للحلول العنيفة. هنا يبدأ التعارض. إن محاولة الرجل البحث عن شريكة مناسبة وقيِّمة من الناحية التكاثرية بصحة جيدة وجمال فتان وسمعة نظيفة ومكانة اجتماعية محترمة سيصنع نفس السيناريو مع رجل آخر. قد نجد المرأة التي تحمل تلك المواصفات لكنها قد تكون خارجة من علاقة حميمية مع رجل آخر أو قد تكون مرتبطة بالفعل برجل آخر. ما الذي سيحدث بعدئذ؟ قد ننجح في الفوز بالمرأة التي نبحث عنها لكننا سنتسبب في مشكلة صعبة بالنسبة لشريكها السابق. إذا كنا غضبنا أول الأمر لأن شريكتنا السابقة ضيعت مواردنا وجهودنا ووقتنا لصالح رجل آخر، فنحن الآن ذلك "الرجل الآخر" الذي خانت المرأة شريكها السابق معنا. ماذا سيفعل بدوره؟ ستتكرر الدائرة بنفس المنطق الطبيعي الذي نعيش به. لم تكن هذه مشكلة بالنسبة لأسلافنا لأنهم لم يفكروا بطريقتنا. أقصد أن أسلافنا لم يجدوا الوقت الكافي والقدرات العقلية واللغوية المناسبة لهذا النوع من التفكير. كل ما كان يهمهم هو مصلحتهم المباشرة بدون التفكير في مصالح الآخرين. نعم قد يكون الأسلاف تجنبوا الارتباط بنساء الرؤساء والأشخاص ذوي القوة والسُّلطة، لكنهم ما كانوا ليرفضوا الاقتران بامرأة خصبة ومتاحة، سواء لوقت قصير أو في علاقة رومانسية طويلة المدى وملتزمة. إنها مشكلتنا نحن! نحن الذين قد نغرق في التفكير أكثر من اللازم، ونحن الذين حصلنا على الوقت الكافي (بفضل الحضارة) للبحث عن أسباب عواطفنا وقراراتنا. والآن، ما العمل؟ أتوقع أن الحياة ستسير على وتيرتها برغم الكم الهائل من دراسات علم النفس التطوري. فعلى كل حال، لم يزل الكثيرون في وقتنا الحاضر جاهلين بمنطق التكاثر، أو على الأقل مؤمنين بمنظمات ثقافية أو روحية أخرى تبرر لهم ما يفعلون. لكننا على كل حال، بصدد مشكلة من نوع "أترضاه لأختك؟ أترضاه لزوجتك؟". حقا إنها نفس المشكلة لكن بمصطلحات أخرى. هذا ما يقودني إلى استنتاج أن العقلية التي وصلنا إليها حتى الآن ليست في صالح النظام الطبيعي (أو الفوضى الطبيعية المنظمة) التي نجحت لملايين السنين في الإبقاء على الحياة بكل أشكالها. إننا نفكر بطريقة لن تثمر أي أطفال ولن تنتج أي وجه من أوجه الاستقرار في العلاقة الرومانسية. وإذا استمر تطورنا العقلي وتفرُّغنا للتفكير، وهذه هي الحال، فإننا نبتعد يوما بعد يوم عن عقول الأسلاف ونفكر بعقولنا الخاصة. ومن ثم، نبتعد عن منطق الأسلاف ونخضع لمنطقنا الخاص. ومن ثم، نبتعد عن هموم الأسلاف ونواجه همومنا نحن. قد نكون الآن في مرحلة انتقالية بين البشر البدائيين والبشر الصناعيين (أو الإنسان الآلي). ليس هذا هو الحل الوحيد، كما أنه ليس أكثر من نبوءة. إننا نسعى بكل قوة وسرعة إلى فكرة الإنسان الآلي التي ابتكرناها بأنفسنا وأملينا عليها منطقنا، ومع أننا لم نزل أشبه بالبشر البدائيين في معظم أحوالنا إلا أننا ننسلخ منهم بهدوء ونحن، ربما، لا نشعر. وبعد الكثير من الوقت، قد تصل هذه المعلومات المرهقة إلى الأجيال القادمة وينتبه الجميع إلى هذا التعارض بين العقلية المعاصرة والحاجة البدائية، وهنا لن تعود سياسة الإنجاب مجدية لأن البشر سيكونون قد فهموا "خديعة" الطبيعة وبدأوا يفكرون لا من داخل عقولهم بل من خارجها.

[1] الأجزاء الثلاثة الأولى من الكتاب مترجمة إلى اللغة العربية ومتوفرة على موقع العلوم الحقيقية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.