في كهف أفلاطون الافتراضي، يقبع النَّاس مكبَّلين ومتوجِّهين بأنظارهم شطرَ حائط داخل الكهف. من خلفهم تتقد نار. وبينهم وبين النار صراط يمر عليه أناس آخرون فتتكون لهم ظلال على الحائط المقابل، والذي بدوره يعكس "أشباحا حقيقية" لأولئك القابعين المكبلين الذين تتجمد وجوههم فلا يستطيعون النظر إلى جهة غير جهة الحائط.
أول ما يجدر بك أن تتساءل حوله هو هذا المصطلح الغريب "أشباحا حقيقية". هل للحقيقة أشباح وخيالات؟ وهل يستوي شبح الحقيقة والحقيقة ذاتها؟
هذا هو ما أؤمله منك بادئ الأمر، وقبل أن تصعد معي إلى خارج هذا الكهف الأفلاطوني المرعب.
إنك تتساءل الآن سؤالا غيرَ متوقع..
أووه، بربك من هو الحقيقي في هذا الكهف؟
أنا لا أعرف الحقيقي في كهف ضائع كهذا يا صديقي. وأفضل الآن أن أؤمن بسُقراط حين يقول "أنا لا أعرف شيئا إلا أنني لا أعرف شيئا".
فلنفترض أننا أصبحنا خارج الكهف.. ضوءُ الشمس يذهب بأبصارنا والأشياء تبدو على غير ما كانت تبدو عليه قبل قليل. ولكن لحظة! هناك أشباح أيضا.. هناك ظلال أشجار ومبانٍ وهناك حوائط لا ينعكس عليها شيء مما كنا نرى ونسمع. يووه هل نحن في متاهةٍ الآن؟ ربما. وربما كانت متاهتنا الكبرى قبل قليل أيضا.
هناك، بعد أن مشينا قليلا بعيدا عن باب الكهف. يتجادل باروخ سبينوزا الفيلسوف الذي قرر في وقتٍ ما من حياته أن يخرج من كهف رينيه ديكارت، هذا الذي كان يقول بثنائية العقل والجسد. المهم.. إننا نرى ونسمع فيلسوفنا سبينوزا يجادله تلميذٌ كاثوليكيٌّ له يُدعى ألبرت برج. يقول له بغلاظة المتشددين الكاثوليك:
"لقد زعمت بأنك توصلت إلى الفلسفة الحقة آخر الأمر. كيف عرفت أن فلسفتك أفضل جميع الفلسفات قديمها وحديثها؟ ناهيك عما سيأتي به المستقبل من فلسفات. هل اختبرت الفلسفة كلها قديمها وحديثها، التي تدرس هنا وفي الهند وفي جميع أنحاء العالم؟ ولو سلمنا جدلا بأنك اختبرتها وأمعنت النظر فيها، فمن أدراك أنك اخترت منها أفضلها؟ وكيف تجرؤ على وضع نفسك فوق رجال الدين والأنبياء والرسل والشهداء والعلماء وآباء الكنيسة؟ إنك لإنسان بائس ودودة تسعى على الأرض، نعم إنك رفات وطعام للديدان، كيف تستطيع مواجهة الحكمة الخالدة بكفرك العنيد؟ وما هو الأساس الذي يقوم عليه هذا المبدأ اللعين الطائش الأحمق الحقير الذي تنادي به وتدعو له؟ وأي غرور شيطاني ينفخ فيك ويدفعك إلى الحكم على خفايا الكون التي يعلن الكاثوليك أنفسهم بأنها فوق العقل والإدراك؟".
إننا مدهوشون من هذه الصرامة الخطابية الفظَّة. ومع ذلك لن نستطيع أن نغادر حتى نسمع رد الفيلسوف الوسيم على تلميذه الذي يدعوه بالـ "دودة". ولا ننسى أيضا أننا حتى الآن لا نستطيع الجزم بأننا نرى حقيقة هذين المتجادلين تحت الشمس!
يرد عليه سبسينوزا غير آبهٍ بشتائمه:
"أنت يامن تدعي أنك وجدت أخيرا أفضل الديانات، وأحسن المعلمين، ووضعت إيمانك فيهم، كيف عرفت أنهم أفضل من علموا الديانات، أو يعلمونها الآن، أو سيعلمونها في المستقبل؟ هل اختبرت كل هذه الديانات قديمها وحديثها التي تعلم هنا وفي الهند وفي جميع أنحاء العالم؟ ولو فرضنا أنك اختبرت جميعها، فمن أنبأك أنك اخترت أفضلها".
إننا في حيرة من أمرنا. هل نرى طريدا لعنته الكنيسة للتوِّ واتهمته بالهرطقة وفصلته عن شعب بني إسرائيل، وآخر متدينا ونبيلا وعليه هالة وهيبة أم نرى شبحيهما؟ هل نسمع أصواتهما أم أصوات شبحيهما؟
الشمس حارقة. ودفء الكهف يروق للكثيرين منا.
قيود الكهوف أكثر أمانا من حرية الشمس.
لا أحد بيده الحقيقة المطلقة.
ظلال الأشياء ليست هي الأشياء.
والأشياء ليست ظلالها بالمقابل.
الذي يلوي رأسه داخل الكهف يرى النار.
والذي يلوي رأسه تحت الشمس يرى الطبيعة
كل ما في هذا الكون إما قابعٌ في كهفٍ أو طليق خارجه.
النار لا تحرق من يلتفت إليها، لكنها تحرق إيمانه.
الناس متيقِّظون داخل الكهف أو خارجه.. وأشباح الناس نائمة بلا شك.
* قصة جدال سبينوزا وألبيرت برج مقتبسة من كتاب (قصة الفلسفة/ تأليف وِلْ ديورانت/ ترجمة الدكتور فتح الله المشعشع)