20‏/07‏/2015

ثلاث دقائق وثماني عشرة ثانية





في البداية، تستمع إلى الأغنية من هنا:




إذا كنت من متابعي السيدة فيروز فستجد صعوبة صغيرة أو قد تشعر بالغرابة. فهذا ليس صوت فيروز في أغانيها الأكثر شهرة مثل (أنا عندي حنين) أو (حبيتك تا نسيت النوم). بل هو صوتها، ولكن ثمة عمق مختلف، وهدوء لا يشبه ضجيج المسرحيات الكبرى التي تمخّضت عن أجمل أغانيها. ربما تستنتج أنه العمق الذي قد تسمعه في أغاني شقيقتها هدى حداد القليلة.
ليس مهما كل هذا، فما يشغلني الآن هو هذه الطريقة التي لُحّنت بها الكلمات، وكأن المقصود منها أن تحاكي المعنى بحذافيره. هذا الإنجاز كان حلم الكثيرين من ملحني منتصف القرن العشرين: محمد عبد الوهاب (يا مسافر وحدك - مع أن هذه الأغنية ملطوشة إن جاز التعبير)، محمد القصبجي (يا طيور - وهي ملطوشة أيضا) والكثيرون.
أن لا تكون الموسيقى مجرد خلفية مريحة فهذا صعب جدا ولا يحققه إلا كاتب الكلمات نفسه، لذا فلا أندهش كثيرا من هذه القوة الموسيقية التي تتذبذب على طول الخط مع الكلمات المنفعلة والمحترقة. فالكاتب هو الملحّن هنا.
قبل كل شيء، هناك 22 ثانية موسيقى تمهيدية. ولا أدري إن كان هذا المصطلح مستعملا عند المحللين الموسيقيين، لأنني لست محللا، وإنما مُخربِش على حافة أغنية تجاوزت مسألة أن تعجبني أو لا تعجبني.
عندما تسمع هذا التمهيد للمرة الثانية أو الثالثة ستعرف السبب وراء قِصره وشعورك بأنه معزوفٌ فقط ليعطيك انطباعا عن البكاء أو التفكير العميق في حدث محزن.
في نهاية المقدمة، ثمة حركات موسيقية متقطِّعة، توحي لك بالتردد (أقول له أو لا أقول له؟).
من يقول لمن؟
هنا تأتي أنثى حزينة ومجروحة متمثلةً في السيدة فيروز، ويقفز إلى المشهد مباشرةً رجلٌ قاسٍ ويبدو غير مبالٍ. فهي تخاطبه بكل براءة وحاجة: (بتسأل إذا بهواك؟) وهو لا يرد عليها إلا بالصمت الذي تصوِّره الموسيقى. إذن هو بعد كل قسوته جاء ليستجوِب حبها.
بعد هذا السؤال الممتلئ بطيش الصبيّة وتهوُّرها، تستغرقُ في استعراض حواسها وإبراز أثر حبه فيها، فتقول:
هالقلب مين ال ذوَّبه؟
مين ال ضناه وعذَّبه؟
ودلُّو على الغصَّات [الغصَّة هي ما يعترض الحلق، والمقصود بها هنا الأحزان والهموم]
وهذا هو المتوقّع من كل مُحِبَّة فاجأها سؤال كهذا من حبيبها. فهي لا تقوى على المحاجة المنطقية والمتعقّلة (لا أحد يقوى في نظري) وهي تراه يعود أخيرا محمّلا بأعباء سؤال يؤرقه، ربما لأنه أدرك أنه أرهقها عليها أكثر من اللازم.
ولكنه يهزُّ رأسه، وتتولى الموسيقى نقل (هز الرأس) إليك بوضوح: تك تك، تك تك!
ما يدهشني في أداء السيدة هو قدرتها على رسم الكلمات بكل رقة. كأن القضية تهمها أيضا. ثم تعيد المقطع السابق ولكن بأسلوب (إييييه، أخيرا جئت لتسأل).. لا أعرف كيف أصف هذه النبرة الخاصة من العتاب، ولكن من السهل العثور عليها عند 0:43.
هي في موقف من لا يعرف ما يقول وكيف ينطق. فتتحول من محاولة الإقناع إلى سرد الأحداث التي عانتها وحدها في غيابه، تقصُّ عليه بأقصى ما تستطيع من الهدوء:
ما دريت بليالي البكي [البكاء]؟
وما سمعت شو صفُّوا حكي؟
وشو ألَّفوا حكايات؟..
انتهاء الجمل الخاصة بالرد على سؤاله بجمع المؤنث السالم (...ات) يوصلك إلى عمق الأسى الذي يصعب على أنثى أن تقصه في لقاء واحد، في أغنية واحدة. فيكفيها أن تجمع ما قيل من الكلام عنهما، وما حُكي في غيابه.. الأمر الذي جعل لياليها كلها بكاءً ولوعة.
ولكن لا يكفي إحصاء آثار حبه، ومحاولة إخباره بشيء. إلى هنا ينتهي دور المسكينة المُعاتبة، وتتبخر. ثم تحل محلها الأنثى التي تريد أن تتهمه. (نفسُ موسيقى التفكير والتردد) تقول بعدها:
مين مِن عيني سرق نوم الهنا؟!
مين عن خدي مسح لون الشباب؟؟
ولكن رقّتها لا تسمح لها بأكثر من هذا، فهي لا تحسن القسوة، وسرعان ما تعدد محاسنه:
ومييييين علمني البكي وكثر الصلا؟ [الصلاة]
(تطيل وتنفعل أكثر، في تعبير عن طول أيامها المرة وهي تصلي وتبكي كلما ابتعد عنها)
ومن مشّاني على دروب العذاب؟
(تواصل عتابها وشكواها ).
المُتوقَّع هو أن تنتهي الأغنية بالشكوى وسرد الأحداث البسيطة. لكن هذا لا يحصل. إذ لا بد من (السخرية الرومانسية). وهي أن ينتهي المشهد بقسوةٍ أنثوية لا بد منها. فبصراخها في وجهه:
بتسأل إذا بهواك؟
ثم ببحثها عن مبررات عدم حبها له، كما بحثت سابقا عن مبررات حبها له. تقول:
من بعد هالأخبار؟
ومن بعد يلي صار؟
وتتردد قائلةً:
ولك لأ... ما بهواك!


يتم التشغيل بواسطة Blogger.