منذ كنت صغيرا في الثامنة، أحببت الكتب الورقية وجمعتها، وبنيت حلما بأن أؤسس أكبر مكتبة في العالم... لكن هذا منذ كنت صغيرا! الآن أنا هنا لأعطي الصغير الذي بداخلي حلما آخر، وهو أنه سيصل إلى الكتاب الذي يريد، وسيوصل الكتاب الذي يريد.
معظمنا يحمل ذكرى جميلة للكتب الورقية، رائحتها، ملمسها، شكلها؛ وهذا ربما لأن جميعنا بدأ مشواره الثقافي بها، فهي إذن صورة اختزنتها الذاكرة، واحتفظ بها اللاوعي؛ لذا معظمنا يقدسها ولا يستطيع أن يتخلى عنها، حتى لو كان عصرها قد انتهى.
أقول عصرها قد انتهى، وأنا لست محقا بالطبع، فالنشر الورقي يملأ المكتبات، وهاجس الكتاب الورقي يؤرق الكتَّاب، لكن أشياء كثيرة حصلت في العقود القليلة الأخيرة، وغيرت هذه المكانة، ولعلها ذكرت الأطفال الذين يحلمون بداخلنا أن الثقافة هي الثقافة، في كتاب ورقي أو إلكتروني.
سأحدثكم عن بدايتي مع النشر الإلكتروني. في بدايات 2014 سافرت إلى المنطقة الشرقية وعدت بمشروع رواية، لم أكن كاتب روايات من قبل، ولم أكن إلا كاتب قصائد مبعثرة على الإنترنت وبين الأصدقاء، عدت بمشروع هذه الرواية، وكنت واثقا من أنني سأواصل الكتابة، إذ كنت كتبت قبلها مقدمات صغيرة لقصص لم أكملها، بقيت لأيام أرسم الشخصيات وأكون فكرة واضحة، ثم شرعت في الكتابة، مأخوذا بروعة الخوض في التفاصيل، ومأخوذا أيضا بحلمي القديم؛ أن أرى وألمس روايتي هذه على أرفف المكتبات الكبيرة.
أنهيت رواية "سماوات جائعة"، وقررت مراسلة دور النشر العربية، وكنت مطمئنا إلى أن دارًا واحدة ستنشرها إن لم تنشرها البقية. وكأكثركم، بقيت سبعة أشهر أراسل وأنتظر وأحاول ألا أشعر بالصدمة، لكنني شعرت بها على كل حال. التعامل العربي كان في كامل تخلُّفه في دور النشر الورقي، وهنا ألمح بداية إجابة مقنعة لمن يتساءلون عن تخلفنا الثقافي.
تنوعت استجابات دور النشر، ولكنها تشابهت في نتيجتها، سأنقل لكم شيئا من رسائلهم:
1- الدار العربية للعلوم ناشرون بدأت بـ: "لك منا كل الاهتمام"، ثم طلبت مني تحرير العمل بتفاؤل: "نقدر وقتك الثمين، ورغبتك بطبع عملك، ونحن دائمًا نستقبل بأذرع مفتوحة أي عمل ونلاقيه دائمًا بالترحاب"، ثم بعد أن أعدت قراءة النص وقمت بالكثير من التعديلات وأعدت إرساله، كتبوا لي: "إذا كنت على استعداد لنشر عملك على نفقتك نحن جاهزون لطباعته".
2- دار مدارك (التي تهتم بالكتاب الشباب) ردت: "تستغرق لجنة النشر من أسبوعين إلى شهرين كما كان موضحا في خطوات النشر. تتكفل الدار بالطباعة في حال الموافقة على الكتاب"، ثم لم ترد على رسائلي الأخرى.
3- دار الفارابي وافقت على النشر، لكنها اشترطت التالي:
- أشتري 200 نسخة (ثمن النسخة الواحدة 12.5 دولار) من أصل 1000 نسخة تطبعها الدار.
- أدفع 500 دولار عند توقيع العقد.
- أتحمل كافة تكاليف شحن النسخ التي أشتريها.
- أتنازل عن الكتاب لمدة 5 سنوات، وأرضى بنسبة 10% من الـ 800 نسخة المتبقية.
4- دار الساقي: "تم الاستلام مع الشكر وسنعمد إلى قراءة الرواية ومناقشتها في هيئة التحرير ونعاود الاتصال بك بعد شهرين من تاريخه"، وبعد شهرين قمت بمراسلتهم، فردوا بعد ثلاثة أشهر: "يؤسفنا إخبارك عدم قدرة دار الساقي على نشر الرواية المقترحة. نتمنّى لك التوفيق مع ناشر آخر".
كما ترون، الصغير الذي بداخلي تكسَّر، واتضح له أن الكتاب الورقي لا يزيد أهمية على كيلو المانجو في الصيف، أو سلة الكرز، أي أنه مجرد سلعة، والسبب الرئيس في رفض دور النشر العربية الأكثر أهمية هو أنني لا أملك موكبا إعلاميا يركض ورائي ويروج لاسمي، و أنني لا أملك 9374.99 ريالا ثمن شراء 200 نسخة من كتابي الذي لست بحاجة إلى قراءته مائتي مرة!
قرأت مقالات كثيرة في تلك الأيام، تتحدث عن النشر الإلكتروني، وعن دور نشر مثل "سيبويه" و "إي-كتب"، فقررت مراسلة الثانية التي كان شعارها "نحن ناشر معرفة، لا تاجر كتب"، وحقا رحبوا بي، وأعطوني كلمتهم من أول رسالة، إنني أنا الذي أنشر كتابي، وهم مجرد جهة مهتمة سينسقونه لي وسيصممون غلافه إن شئت، بدون أي مقابل مادي، وعرضوا علي عشر نسخ ورقية للإهداء بثمن بخس... الرواية الآن ترتاح في أرفف E-kutub.com.
سأواصل الحديث عن النشر الإلكتروني في التدوينة التالية...
0 التعليقات:
إرسال تعليق