إحدى الصور التي اخترتها لغلاف الطبعة الأولى رفضها المصمم قائلا: مخيفة! |
لم أنم إلا متأخرا ذلك اليوم، أنا لا أهتم بالصحافة والثرثرة، لكن صحفيا يقول (دعنا نتقلْ) سيهمني جدا أن يحتفي بي. سهرت أراجع لقاءنا الذي اختزتنه ذاكرتي، هل قلت ما يجب قوله؟ أظن أنني تسرعت في وصف الرواية بالأفكار المختلفة التي تريد أن تبقى، سأهاتفه صباحا وأطلب منه حذف هذا الجزء.. لا إنني في هذا الوقت أراه وصفا دقيقا، لكن...
نمت أخيرا، ولا أدري متى بالضبط، ثم استيقظت منقَّحًا وجيد المزاج، مارست نشاطاتي اليومية، ثم تهيأت للقائنا عصرا. أرسل رسالة قبل الموعد يعتذر عن احتمال أن يتأخر عشر دقائق، فدهشني.. معقول؟ أعرف إعلاميا وعدني بكتابة مقال عن الرواية بعد نشرها لأول مرة، والآن مرت سنة تامة وثمانية عشر يوما ولم تزل رسالته "لاحقا"، وأعرف شخصا... لن أستطرد. سأنقل لكم اللقاء مباشرة.
جاء بعد عشر دقائق معتذرا ومكررا الاعتذارات، ثم افتتح اللقاء بسؤاله:
- أستاذي، لاحظت اليوم وأنا أعيد قراءة الشخصيات أن ثمة تفاصيل غير متينة، مثلا: فراس هو أستاذ علم أدوية. لقد جربت أن أجعله "أستاذ أحياء" فلم أواجع صعوبة تذكر.
- نقد في محله يا أستاذي، تركيبي للشخصيات كان منحازا إلى دورها في تمثيل الفكرة، ولم أهتم كثيرا ببعض التفاصيل التي لا تؤثر كثيرا في انفعال الشخصية مع واقع القصة. لاحظ أننا لن نستطيع أن نجعل فراسا "معلم تربية بدنية" أو "طبيبا".
- ما هو سبب هذا التراخي برأيك؟
- "تراخي" هي كلمة مناسبة، أنا أتهم لغتي السردية، فأنا أستطيع أن أصفها بالجيدة من ناحية إيصال الصورة والحركة، وبالسيئة في بناء شخصية مستقلة لها تيار وعي خاص.. أذكرك هنا بأن الشخصيات تبدو أمتن في الطبعة الثانية، إذ قرأت خلال هذه السنة الوحيدة الكثير من الأعمال الأدبية.
- أهمها؟
- "الخبز الحافي" لمحمد شكري، "شجرة اللبلاب" محمد عبد الحليم، روايتان لجوستاين غاردر.
- يبدو أننا نلتقي عند جوستاين غاردر، فقد قرأت له "عالم صوفي".
تكلمت مع نفسي مشدوها: صحفي سعودي يقرأ فلسفة؟!
ثم انتبهت إلى سؤاله التالي:
- لماذا لم ينشر رمزي الطبعة الثانية ورقيا؟ ألا تشعر أنها تحسنت بما فيه الكفاية؟
- لن أفعل هذا مع هذه الرواية بالذات، هل تعرف معنى أنني شعرت بالقرف من دور النشر العربية؟
- هناك دو...
- يا سيدي، راسلت الكثيرين، كلهم كانوا بائسين يعيدون طباعة رواياتهم المربحة، ويلغون عقودهم مع الكتاب غير الرائجين.
- ألن تحاول؟
- لأجل من؟
- القارئ العربي.
بحماس قلت:
- لأجل كل القراء أوفرها مجانية ولا أبيعها.
- إذن، فلتسمح لي بالانتقال إلى نقطة ذات أهمية.
- فلتتفضل.
- أعجبني مشهد فراس عندما يغضب من نجوى ويخرج ليسبح ساعات طويلة.. هذا المشهد الذي ينتهي بتمزيق فراس لرفيقه أمل "مجسم الدانبو". هل قصدت بهذا الفعل "التمزيق" أن تنهي علاقة فراس بالوهم؟
- يا سلام، قراءة ممتازة.
- قصدت أم لم تقصد؟
- الرمزية في المشهد واضحة، لقد مزق فراس صورته الأخرى الجمادية، وقرر أن يصير إنسانا.. ولقد حاولت إقناعه طويلا.
- حاولت إقناعه؟
- آه، تعبت كثيرا وأنا أكتب النسخة الثانية، حاورت هذه الشخصية الرئيسة عدة مرات ودرستها بما لدي من معلومات نفسية.
- وهل نجحت؟
- ما ترى أنت؟
- رأيي الشخصي أنك تطورت، وربما هذه كلمة تعجبك أكثر من غيرها.
ضاحكا علقت:
- نعم.. أكيد.
- لقد اخترت قرية "مزهرة" مكانا لميلاد فراس وشوبق، وبهذا جعلت القرية التي تسكنها وطنا. هل تعمدت هذا؟
- إنها القرية التي أعرف عنها الكثير، هذا ما جعلني أختارها، كنت أبحث عن قرية من قرى جازان لأجري فيها الأحداث الواضحة والغامضة التي صنعت فراسا، ولم أكن متفرغا لدراسة أوضاع القرى الأخرى. فمزهرة هي "لجوء أدبي" لو كنت ممن يحبون المصطلحات الاعتباطية.
- مزهرة.. ثم الدمام.. ثم سوريا.. وإذا واصلنا القراءة سنكتشف لبنان. هل كل المدن الأخرى لجوء أدبي؟
- لا. فالدمام هي اختيار فراس لا اختياري. ولبنان هي مكان منطقي للقاء بين رجل أعمال سعودي وكاتبة سورية، وسوريا هي مكان مناسب لإخراج امرأة كنجوى ستستطيع أن تعلم فراسا كيف يعيش صادقا مع نفسه.
- لكن يبدو أنك لم تكن تعرف الكثير عن المدن الأخرى.
- معك حق. فقد قصرت كثيرا في المجال الوصفي للأمكنة، وهو عيب يأخذه علي أساتذتي الكبار. السبب هو أنني عجول.
- ولم العجلة؟
- سماوات جائعة جاءت في وقت حاسم من حياتي، أردت في أسرع وقت أن تكون لي تجربة مكتوبة.
- لم أفهم تماما معنى "وقت حاسم"، لكنني سأتساءل عن التجارب السابقة لو أمكنك الإجابة؟
- بلا شك. كتبت أولا قصة تعليمية لعلم العَروض في 2011، وأعددت ديوان شعر في 2013. لكنني لم أقتنع بأي منهما. وهذه الرواية جاءت لتحدد موقفي مما أكتب، هل سأملك شجاعة نشره أم سأنساه؟
- وكنت تعي سيئات العجلة؟
متفكِّرًا نطقت:
- أعيها جدا.
- سيدي، إذا أردنا نحن القراء الفضوليين أن نعرف ما الذي منحته سماوات جائعة لرمزي؟
- منحتني الثقة، والأصدقاء الجيدين، والأكثر من هذا أنها منحتني توجها جديدا في الحياة.
- ستشرح لي هذا التوجه إن أبديت رغبتي؟
- إنه التوجه الفني عموما، عندما كتبت القصة لم أكن أعرف نهايتها، لكن فراسا ونجوى علَّماني أن أفكر فيهما، ليس من حيث هما شخصيتان متخيَّلتان، بل من حيث هما وجودان مستقلان.
سكت كأنه يعيد النظر في كلامي، ثم قال بود:
- لن تكون عجولا في المرات القادمة، بالمناسبة أما من عمل قادم؟
- نعم، رواية ثانية، أعدك بأن أصبر عليها!
- وستنشرها إلكترونيا أيضا؟
- بالتأكيد.
- سأنتظرها يا رمزي..
تردد قبل أن يقول:
- في الحقيقة، لقد أسعدني لقاؤك، وأدرك الآن أن أمامي مهمة صعبة، وهي أن أنهي هذا اللقاء، لأستطيع جمعه كله في مقالين على الأكثر.
- أنا أكثر سعادة، ولست بحاجة إلى أن.. (طوووط).
نظرت في شاشة الجوال فإذا بها تعرض صفحة الملاحظات التي كنت أكتب فيها، أينك يا أستاذ..؟ يا أكثر الصحفيين أدبا؟ هيييه!!
ثم شعرت ببعض الأمل في مواصلة النداء: يا صاحب (دعنا ننتقلْ)، ألن ننهي اللقاء؟
فلم يعد، وعندما توجهت إلى قائمة الاتصالات، لم أجد رقمه المميز.
* اللقاءان متخيَّلان كما هو واضح.
4 التعليقات:
عندما وصلت ل "ما هو سبب هذا التراخي برأيك؟"
أدركت أن اللقاء كله لم يقع أصلاً! :)
لم أدرك ذلك في الجزء الأول
افترضت أنكم أدركتم لغة اللقاء من البداية، على الأقل من "دعنا ننتقلْ" :)
أهلا بك يا هيثم، وأرجو أن تكون ازددت حماسا للقراءة.
يعطيك العافية. بصراحة كل موضوع هنا اجمل من الثاني. واتمنى ان يتوفر لي الوقت لقراءة كل المواضيع لانها وبلا مجاملة ممتازة وجديرة بالقراءة.
ومشكور يا صديقي على توفير الرواية. قرأت حتى الان الصفحات الاولى منها ووجدت انها مبشرة وواعدة.
كون أنك اجريت عليها بعض التعديلات هذا معناه ان الحس السردي موجود لديك اصلا وانك تطمح في ان توظفه بطريقة افضل واكثر تجويدا واقناعا. وستنجح في ذلك بكل تأكيد.
سعيد بالتعرف عليك كاتبا ومثقفا متميزا واتمنى لك دوام النجاح والتوفيق.
بروميثيوس
إنني ممنون لروحك البليغة
آمنت منذ سنوات بأنك مدون كبير وعتيق، وحضورك هذا يسعدني
تفضل، فالرواية وكتاباتي الأخرى تحتاج إلى اهتمامك ونصحك
وشكرا على الإضافة يا صديقي
إرسال تعليق