07‏/11‏/2015

الصراع: اعتذروا لي من أمي


للرسام الإيطالي أنتونيو دييغو فوتشي
بعد وجبة العشاء، ترك الرسالة: "أبي وأمي، شكرا لأنكما أنجبتماني، لم أعد أطيق البقاء لأجل 25% فقط، شكرا".
الأسرة في اللوحة هي تجسيد لعائلة إيطالية، أكثر ما يقلق المشاهد المتأمل هو تنوع الملامح الشديد. يسهل استنتاج أن أعضاء هذه العائلة يخضعون لحالة من الرعب غير اليقيني والانتظار. لكن كل نظرة تقول غير الأخرى. يستطيع أحدكم أن يسمع وجه الأب قائلا: تبا. أو وجه الطفل غارقا في أفكاره البسيطة: ترى ما الذين يحدث؟

حقا ما الذي يحدث؟
لقد ترك أحد أفراد العائلة رسالة غامضة، وغادر.. أو هرب. مم هرب؟ تكثر الأجوبة ويقل التأكد...
إن بقاءنا في بيت واحد مع أسرنا يحتم علينا أن نعيش حياة مكلفة إلى جانب الحياة السعيدة الناعمة المطمئنة. معظمنا يعلم تماما ما يعني أن نعيش في أسرة واحدة. لكن من منا يعلم ما هي تكاليف العيش في أسرة واحدة؟ علم النفس التطوري يحاول الإجابة بتواضع، ولا يفرض علينا آراءه وفرضياته.
في 1964، عندما قدم عالم الأحياء التطوري الشاب ويليام هاملتون قاعدته الشهيرة (rb > c)، بدأ الوسط العلمي يغير نظرته إلى الفرد والعائلة تغييرا ملحوظا، وانتشرت أمثولات علمية مثل: إذا وجدت أحد إخوانك يغرق في النهر فمتى ستقرر مساعدته؟ كم تحتاج من أبناء إخوانك لتقرر القفز في النهر وتعريض حياتك للخطر؟
قاعدة هاملتون تفسِّر ظاهرة انتخاب الأقرباء kin selection التي تقول إننا سنساعد وسنضحي لأجل أقربائنا الجينيين بقدر ما يربطنا بهم من المورِّثات (الجينات). أي، سيساعد أحدهم أباه أكثر بالضعف من مساعدته أحد أعمامه أو أخواله؛ لأنه ببساطة يرتبط بأبيه بنصف جيناته (50%) ويرتبط بعمه بـالربع (25%). هذه الأرقام هي التوزيع البيولوجي لصفات الإنسان الموروثة. إذ من الواضح أن الطفل يأخذ نصف مورثاته من أبيه والنصف الآخر من أمه، وبهذا تكون علاقته بجده وأبناء عمومته وخؤولته مثلا علاقة االثمن (12.5%)، وبجده الأكبر (أب الجد) علاقة (6.25%).. وهكذا.
ثم قيل إن أحدنا لن يضحي بحياته لأجل أخ شقيق، ولا أخوين! لكن إذا وجد ثلاثة إخوان له يغرقون أو يتعرضون للموت، فسيفعل. كيف لا؟ وهو سيترك وراءه ثلاثة أرباعه؟ يبدو هذا مسليا وصالحا للتباهي وإغاضة صديق يكره داروين مثلا، لكنه أعمق بكثير.

حتى لا يصير الموضوع كله أرقاما وفرضيات، سأحاول بأسلوب أبسط تفسير غياب صاحب الرسالة وفراره من عائلته. نحن في المجتمع العربي الشرقي نختلف عن الناس في المجتمعات الغربية. إننا ننتمي إلى نوع من المجتمعات يُدعى في علم النفس بالمجتمع الجمعي Collective، إذ نعيش معظم حياتنا مرتبطين بعائلاتنا بأشكال عدة، ومسؤولين عن بعض مهامها وتكاليفها. في جازان حيث أعيش، يمكن أن تجدوا بدون تعب رجلا في الثلاثين من عمره لم يزل يعيش في كنف أبويه. الأكثر شيوعا هنا هو أن من السهل ملاحظة شُبَّان في العشرينات -مثلي- يعيشون مع أسرتهم ويأخذون مصروفهم اليومي! إنها الثقافة الجمعية هي ما يفرض علينا هذا، ويندر أن ينشقَّ أحد أعضاء الأسرة مالم يحصل على عمل أو يتزوج.
البقاء في إطار الأسرة ليس مجَّانا. حتى يبقى أحد الأبناء أو البنات في الأسرة وينعم بطمأنينتها وغذائها عليه أن يساهم في بنائها. يذكر ديفيد باس (علم النفس التطوري، 2009) أن الواحد منا سيبقى في أسرته مالم يحصل على أسرة خاصة به (يتزوج). وإذا طبقنا قاعدة هاملتون، فإنني أنا شخصيا سأغادر بيتنا عندما تكون الفائدة الوراثية التي سأحصل عليها (rb) أكبر من الكلفة التي سأتحملها ببقائي على مكتبي الذي أكتب منه الآن (c). ومعنى الفائدة الوراثية هنا هو الحصول على أشخاص أقرب جينيا إليّ (أبناء). أما إذا لم يحدث هذا، فإنني سأبقى وسأدوِّن كل أسبوع بحسب مزاجي.

في ظروف كثيرة، تكون التكلفة التي يتحملها عضو من أعضاء الأسرة أكبر بكثير من فائدة الخروج من البيت والبحث عن شريك. في رسالة الرجل، ذكر -بقسوة- أنه لم يعد محتملا رعاية إخوته الذين يرتبطون به جينيا بـ (50%) لا أكثر. فكان من المؤكد أن بقاءه في هذا البيت يعني أن يساعد أبويه في الاستثمار الوالدي في الذرية. تتنوع المساعدة من المساهمة في التربية والتعليم، وتدبير الغذاء، والاهتمام بشؤون المنزل المادية والنفسية. وقد يبدو واضحا من نص الرسالة أن الرجل سئم هذه الحياة، وقرر أن يغادر البيت هروبا من الكلفة التطورية التي تكلَّفها.

الكثير من المشكلات العائلية تحدث بسبب الصراع حول (من سيقوم بمَ؟)، يتسلَّم الأفراد مهمات مختلفة لمساعدة الأبوين، ولكن إن حدث خلل في هذه المساعدة، قد يضطر الأب أو الأم إلى افتعال المشكلات مع الذرية للوصول إلى حل حاسم. هذا الهم المرتسم على ملامح الشخوص في اللوحة يفسر خروج عضو من الأسرة؛ ستزداد التكاليف على البقية.
قد يجد بعضنا في هذا الإطار الفكري متسعا لخياله، فيفترض أن حزنه على وفاة أمه سيكون أكثر بالضعف من حزنه على وفاة جدته. هذا بديهي! لكن ما الأساس النفسي الذي ننفعل انطلاقا منه؟ إنها القرابة الجينية.

في الختام، تبذل قاعدة هاملتون وسعها في تفسير التضحيات الشخصية لصالح القرابة الجينية. ومن الواضح جدا أن المحور في كل هذه التضحيات هو الفرد ذاته. أو بلغة الوجوديين "الموجود لذاته". الرسالة تخرج إلى السطح ما يعتمل في القاع من آليات نفسية تطورت على مدى الأزمان. وهي آليات تخدم وجود الفرد في المقام الأول. قاعدة هاملتون لم تزل فرضية، لقيت دعما أحيانا، ولم تلقه أحيانا أخرى. وهي بقوتها الرياضية تغري حتى العلماء أنفسهم بالاقتناع والتعصب. ثمة علاقات نفسية أخرى بين الفرد ومن حوله، منها "الغيرية altruism" ومنها الصداقة والحب، وفي أحوال كثيرة يفضل عالم النفس التطوري أن يلتزم الصمت أمام مشهد أبعد ما يكون عن حدود الفرضيات والمنطق.


6 التعليقات:

this is a sad read
that is all what I can say at the moment

:(

I am sorry about your sadness, dear Haitham
The nature of such subjects is really frustrating, however, in the same time we need to be much closer to the way we interact with each other

Thanks for giving your impressions, I hope you have happy readings next times

جميل جدّا.
ربط اللوحة بالموضوع أتى رائعا وذكيّا.
عن نفسي أتمنّى لو أن أفراد كلّ عائلة يظلّون متماسكين ومتآزرين دوما ومهما تغيّر الزمن او تبدّلت الظروف. لكن للواقع مقتضياته واشتراطاته أحيانا.
إشارة عابرة: لاحظت انك ترجمت كلمة
altruism
إلى الغيرية، وهي ترجمة معقولة، مع إنني أفضّل مفردة الإيثار، أي تفضيل الآخرين على النفس.
على كل، تسلم على الموضوع الرائع كما هو الحال مع بقيّة مواضيعك.

بروميثيوس لا ريب أنك الأروع في قراءة اللوحات وذكاء اختيارها وتوظيفها.. أشكرك.

فيما يخص altruism، فإنني أعتمد دائما الترجمات السابقة للمصطلح (النفسي خصوصا) قبل أن أترجمها بنفسي، وهذه هي ترجمة الدكتور الرائع مصطفى حجازي.
دعني أستطرد قليلا.. في هذا السياق، الغيرية هي الترجمة الأدق، لأنها لا تشير إلى الإعطاء بلا مقابل كما يقتضي سياق الإيثار، بل تشير إلى إعطاء غير ذوي القرابة الجينية، تحسبا للحاجة إليهم في سياقات أخرى. لذا فليس من الدقيق نقول إنها "إيثار".. بل غيرية.

أشكرك صديقي الفنان.

شكرا على المعلومات’ العنوان أسرني بشكل رهيب’ و طريقة طرحك للموضوع بشكل أكثر,
العائلة هي منبت الفرد و هي أحد الحتميات التي لم يكن له دخل في اختيارها, أحيانا يكون الاستمرار بالعيش معهم شيء مستحيل, فيصدر قرار الابتعاد’ لكن طبيعة مجتمعنا تعتمد على متانة هذه الرابطة المحددة جينيا’ و أظن أن صلاحها من صلاح الفرد,
رب اجعلنا من البارين

أهلا بك shiny smile
وشكرا على بدء الصداقة

حقا، العائلة جزء متين من الحياة، إن لم تكن أهم أجزائها إطلاقا، ولولاها ما كان الإنسان وصل إلى ما وصل/يصل إليه الآن -وبالمناسبة- سواء أكان خيرا أم شرا.

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.