03‏/11‏/2015

لتحطيم قلب الأنثى (2)



  by Huebucket
بين الكثير من الأفلام التي لا مذاق لها، قدم "عيون لا تنام" في بدايات الثمانينات مادة جديدة للتفكير العربي الذي اعتاد في كثير من أحكامه على الأفلام المصرية أن يصفها بالماجنة، أو الباردة، أو في أحسن الأحوال بالمناسبة لتضييع الوقت.
الفيلم يصور مشهدا طويلا من مشاهد الإنسان الأقدم والأقوى: صراع العائلة. وفي ذروة هذا الصراع تنسحب موجات الغضب، وتضرب في صخور الشاطئ موجات حب.
الصراع العائلي والعاطفي هما من أقوى الحبكات في قصة الإنسان. ويكفي أن نبدأ نقاشا صغيرا حولهما حتى يتحول المكان إلى غابة سافانا، بشكل مباشر أو غير مباشر.
لن أستغرق في ذكر تفاصيل الفيلم كما يفعل النقاد السينمائيون. سأكتفي بالإشارة إلى أن:
- ثمة مؤشرات نفسية تطورية في معظم أحداثه.
- الكاميرا تتحرك مع النفس لا مع الجسد.
- نستطيع أن ندخل من خلاله إلى موضوعنا.

الرجل العقيم هو متسابق خاسر في مضمار البقاء. يحاول (إبراهيم) ألا يكون هذا الخاسر، فيطلب من (أم البتعة) أن تبحث له عن فتاة شابة "تستطيع الإنجاب". هنا، عندما يهيم (إبراهيم) في السوق متلصصا على أجساد البائعات، يكتشف هو بنفسه خصوبة (محاسن) الفقيرة. ينتشي، يشعر بالانتصار بعد الشيخوخة التي تفلُّ عظامه، ثم يتزوجها.
لا يرضى رجل ما أن يبقى "عجوزا عقيما"؛ لأن هذا يعني أن نسله سينقطع، وأكثر توضيحا، يعني أن صفاته الوراثية لن تنقل إلى ذرية تنقلها إلى ذرية لاحقة. يبحث كل (إبراهيم) بيننا عن (محاسن) الخصبة الشابة التي ستجعله أبا، وتبحث كل (محاسن) شابة وضائعة وضعيفة عن (إبراهيم) قوي وثري وملتزم.

ليس هذا كل ما في الموضوع، فهو كما قلت لكم في الجزء الأول جديد وينبغي أن أمهِّد له تمهيدا جيدا. لكن دعونا ننتقل إلى صراع العائلة الآن. في ورشة (إبراهيم)، يعمل ثلاثة إخوة له. هو يكبرهم طبعا، ويتسلط عليهم بصفته الأخ الأكبر. وما إن تدخل محاسن بيته، حتى يعترض طريقها أحد الإخوة، والذي هو (إسماعيل).
نحن الآن نشاهد مسرحية طالما تكررت بين العائلات منذ بدأ الإنسان يعتد بأهله وينتمي إليهم. بعد غياب الأب، يتولى الأخ الأكبر رعاية إخوته، ثم يدرك في النهاية أن له حقا عليهم لا بد أن يوفوا به، وهو حق الطاعة والانصياع. يتمرد بعض الإخوة، ويهرب بعضهم الآخر من هذه الحرب الوراثية. (إسماعيل) كان الوحيد المتمرد.

بكل الطرق، عجز (إسماعيل) عن تبغيض (محاسن) إلى قلب أخيه. إنه مدفوع بقوة غريزية ذكية: إذا ولدت محاسن ولدا، فسوف يكون له الإرث. وبعد أن عجز عن مهمته هذه، لجأ إلى حيلة من أقوى الحيل: استعان بـ (أم البتعة) على التشكيك في شرف (محاسن).
لماذا غضب (إبراهيم) وانهار عندما بدأت الشكوك تدور حول شابَّته الخصبة؟ لأنه لا يريد أن يدخل غريب ما في نسله. هذا أيضا أحد مركبات نظرية الاستثمار الوالدي (باس، 2009). الرجل غير متيقن من إخلاص زوجته، ومن ثم فهو غير متيقن من نقاء نسله منها؛ لذا، يستطيع الذين تساءلوا في الجزء الأول: لماذا يتجه الرجل إلى أنثى أخرى؟ أن يجيبوا على أسئلتهم.
إنها شعلة لا تنتهي، هي شعلة الشك. تجعل الرجل في حيرة وعجز من أمره، وتسمه بالخذلان حتى لو كان واثقا من إخلاص أنثاه.

بينما تسير هذه الأحداث إلى ما تسير إليه، يولد الصراع العاطفي. بعد أن تمتعت (محاسن) بالنعمة التي يوفرها لها زوجها، بدأت تبحث عما لا يوفره لها. وكما يجب أن تكون القصة، كان (إسماعيل) الرجل الفتيَّ الخصب المشتعل بالشهوة البادية في عينيه. تحاول الاقتراب منه غريزيا لأجل الولد، وظاهريا لأجل مشاعرها الدافئة. وفي غياب (إبراهيم) الذي استعان بالطب ليعالج عجزه، التهبت أنفاس (محاسن) و(إسماعيل)، ولذ لهما الحب الصعب.

ثمة مشهد قوي الآن: يعلم الزوج أن زوجته حبلى، يطير فرحا وينتظر مولودا ذكرا، يدرك الأخ أن هذا الابن ابنه، تدرك الشابة الخصبة أنها وقعت في المتاهة. الأمر الذي سيحطِّم قلب الأنثى هو أنها ستشعر بانعدام القيمة. وهذا كان شعور (محاسن) وهي ترى الإنسان البدائي الطمَّاع يتكشَّف في وجه (إبراهيم)، ومن بعد إبراهيم في (إسماعيل).

استعيدوا الآن صورة تلك المرأة في لوحة ديبورا ستيفينسون، سترون كل (محاسن). ثمة أسئلة كثيرة يمكن أن تجيب عليها نظرية الاستثمار الوالدي parental investment theory، واحد من أخطرها هو: لماذا نحب دائما إنجاب الذكور؟ أجاب (إبراهيم) ببساطة: "لأنه من سيرث الورشة"، وأجاب (إسماعيل) كذلك: "لأنه من سيرث الورشة".
وتجيب المشاهدات الدقيقة:
لأن الذكر أقدر على نشر السلالة.
لأن الذكر أقوى في الصراعات والحروب.
لأن الذكر هو المانح، الزارع، المستثمر.
ولأن الذكر يستطيع "تحطيم قلب الأنثى": أي، يستطيع أن يحصل على ولدين في وقت واحد!

* لقراءة علمية، راجعوا الجزء الخاص بالعائلة في كتاب ديفيد باس "علم النفس التطوري".

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.