15‏/03‏/2016

قصة قصيرة: أنفاس الموتى


"العزاء" للفنان السعودي عبد الوهاب العطيف

أعادت فاطمة الصورة إلى الحائط المصلوب بمسمارين في زاوية غرفته، انقبضت عضلات وجهها، انبسطت، فكأن كيسا من الدموع السوداء انفتح بفعل أنفاسه النائحة. توسدت جسده المغروس في أرض الغرفة الذي يقاوم السقوط كجذع يحترق. رأسها المرتاح على كتفه تحسس نبض شرايين رقبته، كلا لم يكن نبضا، بل سفنا ملأى بالجائعين تتحطم عند خشبة المرفأ في ديمومة مخيفة. 
عندما دخلت إليه مخطوفة من راحة نومها، رأى في وجهها شحوب المفزوعين الذين لم تزل ذكرى كابوس تنخرهم، جثَت بالقرب من سريره الخشبي المغزول من جدائل القصب (القعادة)، وأمسكت بيمينه التي كانت تنضغط في طرفها سيجارة جديدة. كعادته في ليالي الحزن يتكئ على مخدتين كان ينام عليها أخوه الأصغر، ويعري سجائره حتى تغادر وجودها. لم يدر كيف ذهل عن إغلاق الباب، ولكنها فاطمة! إذا شاء قلبها أن تحترق كل الأبواب لتدفئ روحها لفعلت. سحب يده بهدوء وأطفأ السيجارة، سألها: "ما بك يا ابنة العم؟"، فرفعت وجهها مجيبة. 
ضائع في ساحة خوف تشتعل تحت سواد شعرها المنسرح. علم هذا كما يعلم الآباء بأسرار أطفالهم، فشد يده حول يديها وتنهد. نطقت فاطمة: "راقصني يا علي". تكلم بدون أن يبدي أي انفعال: "أراقصك.. كم معي فطوم! ساعديني على النهوض"... "لكن هل أهل البيت نيام؟ سمعت قبل قليل ضجيج الصغار". فاطمة تنفض الرماد عن شعره بأنفاسها: "تحولوا إلى أحلام ناعمة بعد أن حكت لهم أمي حكاية "أبو مشعل" عندما أضلَّها حتى ضاعت يوم عرسها. نمت معهم خائفة، لكن ليس من هذا العفريت الخرافة، بل من رفضك. جئتك من النوم لأن.. (تضحك) لأنني اشتهيت الرقص معك". 
هصَرَ يمينها من المعصم، شعرت بهشاشتها، تمايلت معه متمسكة بعنقه الطويل بينما لف يساره حول خصرها بإتقان اكتسبه من رحلاته إلى أميركا ومن روايات جين أوستن. سار بها مندفعا كأنه شهاب محترق حتى التصق ظهرها بالباب، أقفله، ثم أعادها إلى زاوية الغرفة. 
لم يكن يفضل الكلام بعد منتصف الليل، وهي لم تسمعه إلا لهو قلبها الراكض على صدره. قالت وهي تحاول متابعة رجليه برجليها. 
- هل تذكر؟ عندما لمستني لأول مرة كنت فاقدة الوعي، وكنت أنت تضرب وجهي بيديك هاتين وتناديني باسمي. الآن أنا بلا وعي، أو لا أملك منه سوى ما أدرك به وجودك معي وروعة هذا الظلام المضيء قليلا. 
- نعم، تمنيت ذلك اليوم أنك لا تفيقين أبدا. فطوم أنا أشد صدرك فلا تخافي من السقوط، حركي ساقيك كريشتين. هكذا أحسن. 
- رائحة نومي ما زالت تجننك؟ 
رد مبتسما: 
- أوووف، أكثر. 
اختار أن يلبي رغبتها برقصة فوكستروت. هذه الرقصة بالتحديد لم تكن سهلة عليها فحسب، بل لذيذة. هادئة ومرتبة. يسايرها فيها كما تقفز الأحصنة على رقعة شطرنج، ويحدثها وتحدثه بأجمل الذكرى وأصعب الأحلام. 
علقت بصوت هامس: 
- علي، إنه يربكني. 
- من هو؟
- عيناه فيهما عمق مزعج، أنتما تحملان نفس الإزعاج ونفس الشعر الخفيف بين الحاجبين. 
- تقصدين أخي؟ 
- آسفة حبيبي. 
أحست فاطمة بألم انشداد ذراعه حول خصرها: 
- إنك تعلم كم أنا ضعيفة. لا تحزن. 
- لا أحزن يا فطوم.. فأنا أعيش الحزن دائما. 
- رحمه الله. 
- لا يهمني ما دام هذا الرأس لم يرحمني. 
- قل لي كيف أفرحك؟ أنا أحبك. 
سكت لدقيقة حتى أعادت السؤال وقد أطلقت حمامتي وجهها في عينيه. أجاب متنهدا: 
- لقد مات بطريقة مؤلمة. لم يتألم هو لأنه كان ميت الإحساس. لكن الألم عبَّر عن نفسه في جسدي. أشعر بارتطام السيارة واحتراقها وأصرخ مستنجدا لكنني لا أموت. ذاكرته امتزجت بذاكرتي. أرانا نبني بيوتا من الطوب الصغير ونخطط للزواج من بنات الجيران. أرانا نملأ الأكياس بالماء ثم نمزقها بأنيابنا الصغيرة ونقلد جارنا عندما يحلب ناقته. رائحة ملابسه تغلبني دائما. كلما شممت شالا من شالاته امتلأ دمي بشعور الفقد والعزلة. 
تعرقت يدها فقربها من فمه ونفخ فيها مرارا ثم واصل: 
- لم نكن قريبين كأخوين. عرفته داخلا أو خارجا من البيت في عجالة وعرفني غائبا في أسفاري أو محبوسا في مكتبي. لقد شعرت دائما بأنني أفضل وأحكم منه. لكنه بعد أن رحل صار الأفضل والأنقى والأحكم.. بل صار يوجهني إلى أماكنه وأصدقائه وسجائره يا فاطمة. 
- هذه هي الدنيا يا حبيبي.. كلنا سنذهب ذهابا.. ستمحونا الأيام. 

توقف عن الرقص، انمزق منها مضطربا، لحقت به وحملت وجهه على راحتيها، كانت عيناه تهربان إلى الصورة المعلقة بينهما، بدأت تقول له: 
- سأصلي لأجله ليرتاح.. لقد روينا معا من لبن أمي، فتش عنه في عيني، في دمي، في رائحتي. كل ما أريده هو أن...
قاطعها: 
- فاطمة، إنني حزين لأنني اشتقت إليه، لا تظني أنني أضعته. أخي لم يمت إلا بالنسبة لي ولك ولأمي التي تحلم بأن تستيقظ وتجده يفتش عن أموالها بين أطباق الطعام. لقد مات جسده الذي بنى البيوت الصغيرة وتمنى الزواج من ابنة جارنا وحفظ كل طرقات القرية. أما بيوته وأمنياته وخطوات نعليه فخالدة لم تمت. إنها في ذاكرتي وفي أوراقي. سأكتب عنه حتى أموت وألقاه يتربع على عرش الخلود مع "زيوس" و"هِرمِس" وأبطال الأجيال الآتية. سأكتب عنه وعن حزني حتى يذوب جليد الموت وتتقافز أنفاسه في هيئة أسماك ملونة أبدية. 
بكت فاطمة وسالت أنفها فضحكت قائلة:
- لقد أصبحت في الخامسة والعشرين وها أنا أبكي كما تبكي الصغيرات. 
ثم عادت تبكي وتئن واضعة يديها على صدره ورأسها على يديها. قال علي وهو يفرك خصلاتها: 
- أما عيناه والشعر الذي بينهما فيكفي أن نتزوج يا فاطمة لننقل كل هذا إلى ذريتنا ومعه أمراضه وضحكاته وإدماناته. 
أشعلها هذا الوعد فعلا نشيجها قبل أن تهدأ وتترك بللا سرعان ما جف على قميصه كمطر الصحراء. التفتت إلى الصورة، تأملتها كما يتأمل زوار الكنائس إيماءات التماثيل الرخامية ثم تناولتها برفق. 


3 التعليقات:

يااااه.

قتلتني يا رمزي!

سلامتك يا هيثم
لن أعيدها مرة أخرى :) :)

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.