22‏/07‏/2015

أفكار تطورية: أكل التوابل






ما الذي كان سيحدث لو لم يأكل أسلافنا التوابل؟
باختصار وبدون مبالغة، الأمر يتعلق بنا. وبالتحديد، بوجودنا. ربما لم نكن لنوجَد.
عندما نصاب بالعدوى، تشتعل أجسادنا بالحمَّى وتقل شهيتنا لبعض الأشياء كاللحم، بينما تزيد للوجبات الساخنة كالشوربة، والمتبَّلة خصوصا.
ربما لم نتساءل بعمق حول هذه التفضيلات في هذا الظرف. وهَرَعنا إلى بلع الأقراص المخففة لدرجة الحرارة والآلام، وبلا شك المضادات الحيوية أو الفيروسية.
يهتم علم النفس التطوري، الذي ثار ثورته الحقيقية بعد نشر تشارلز داروين لكتابه عن أصل الأنواع (1859)، بمثل هذه الأمور. فهو يدرس العمليات العقلية والسلوكية (شأنه شأن أي فرع من فروع علم النفس) وعلاقتها بالبقاء والارتقاء (أساس نظرية التطور).
وفيما يخص موضوعنا، توجد فرضية (ضد جرثومية Anti-microbial) لأكل التوابل. تزعم أن الأسلاف الأوائل من البشر طوَّروا رغبة في أكل التوابل لسبب مجهول، ثم قام الانتخاب الطبيعي باصطفاء هذه الرغبة وتعزيزها لما لها من فوائد تتعلق بالبقاء.
ماهي فوائد أكل التوابل؟
بالإضافة إلى نكهتها اللذيذة مع الأطعمة، تقتل التوابل العديد من أنواع البكتيريا، وتحد من حالات التسمم.
فالتوابل الأكثر شهرة: "البصل، الثوم، الفلفل الحلو قتلت كل أنواع البكتيريا الوحيدة التي اختبرت عليها في المختبر" (علم النفس التطوري، دافيد بوس، ترجمة مصطفى حجازي). وقد يجيب هذا على سؤال أي مبتدئ في الطبخ: لماذا نضع البصل والثوم والفلفل أولا!


لذا نحن نفضل التوابل. وبعضنا يفضلها بشكل مُستغرب عندما يصاب بالعدوى. فعندنا، يصنع الأهل الشوربة الساخنة المتبلة للمرضى بمجرد ارتفاع درجة حرارتهم واستلقائهم على السرير. وما إن نمرض حتى نشتهي بشدة الأطعمة والمشروبات الساخنة والمتبلة. ولهذا دافعٌ وجيه. إن التوابل والسواخن تساهم إسهاما عظيما في تخليص الجسم من الميكروبات.
الحمَّى نفسها هي استجابة الجسم الأولى والأقوى على تخليصه من الميكروبات. وقد اكتشف في بعض التجارب "أن الأطفال المصابين بجُدَري الماء والذين تم خفض حرارتهم بواسطة الأسيتامينوفين Acetamenophen [الأدول أو البانادول] استغرقوا يوما إضافيا تقريبا للشفاء مقارنةً بالأطفال الذين لم تخفض حرارتهم" (المرجع نفسه).
ربما يمكن تفسير هذا "اليوم الإضافي" بعوامل جينية أو آليات دفاع أخرى. لكن التجربة التالية قمينة بالاهتمام البالغ.
كان السفلس Syphilis يقتل 99% ممن يصابون به. وعندما لاحظ أحد الأطباء وهو جوليان فاغنر أن السفلس نادرا ما يعرف في الأماكن التي تنتشر فيها الملاريا Malaria، قام بحقن بعض المرضى بالملاريا عمدًا ولم يحقن البعض الآخر.
لقد كانت النتيجة مذهلة. 30% من المرضى الذين حُقنوا بالملاريا تخلصوا من السفلس، بينما لم ينجُ الآخرون.
كان التفسير الوحيد لهذا الشفاء هو أن الملاريا مرض يرفع درجة حرارة الجسم، الأمر الذي سهَّل قتل ميكروب السفلس. (المرجع نفسه).
لا أعلم -شخصيا- هل من الصحيح في بعض الحالات ترك المريض يغلي اعتمادا على كفاءة الحمى، أم إعطاؤه مخفضا للحرارة. لكن دور الحمى الرئيس هو قتل البكتيريا. بغض النظر عن آثارها الجانبية.
فلنتفرض الآن أن أجدادنا العتيقين لم يفضّلوا أكل التوابل. ما الذي كان سيحصل؟
ربما كانوا سيموتون بسبب أول وجبة دسمة من اللحم الملوّث، أو أول لقمة مسممة من نبات مجهول. وعلى سبيل الافتراض ليس إلا، لم نكن الآن موجودين نحاول أن نفسر الغرض التطوري من أكل التوابل!
ملحوظة: هناك قفزات عظيمة في تاريخنا الطبيعي تخبرنا بأن تكيُّفاتٍ جمَّة كانت وراء هذا الإنسان العاقل الحديث الذي ننحدر منه. وانتقاء الأغذية واحدة من هذه القفزات الأساسية التي عاش أسلافنا الأذكياء معظم حياتهم لإتقانها، ويبدو أنهم نجحوا. وما أكل التوابل إلا انتقاء بسيط من بين الانتقاءات الكثيرة الغامضة.


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.