11‏/03‏/2016

قصة قصيرة: افتح يا حبيبي






منتظرين في السيارة، كنت أنفخ لها القفازات حتى تكاد تنفجر فتصير مثل قنفذ أو حيوان بحري، وهي تعبث بها قليلا ثم تنساها، ربما لأن شكلها لم يعجبها. دللتها كما أفعل في كل لقاء: دغدغتها لأسمع الهواء يجري متقطعا من رئتيها في ضحكة عذبة، قبلتها لأرى زعلها وهي تضع يدها على خدها وتمسح آثار فمي. الجو حار كما يجب أن يكون في بدايات مارس، وهناك عباءات تدخل ثم تخرج بآلية وبلا معنى جمالي.
ابتعدت في ذهني عنها، كانت تطوي جسدها الهزيل حول يديها وتردد أناشيدها الخاصة، تساءلت: كيف تفكر؟ إنها لا ترى الحياة والناس كما أراهما، فكيف يفسر دماغها الجميل كل هذه الحركات؟ لعلها تتفاعل مع الوجود كأية سمك ملونة أو أي قطة شيرازية؟ لكن لا. إنها تغني وترقص وتحتفظ بالصور والذكريات وتتعلم اللغة وتعد حتى المائة! لا يمكن أن تكون كائنا بدائية لمجرد صغر سنها، بل هي كائن ذكي.. أذكى.
وإذا كنا نحن الكبار صغارا أمام كل جديد، إذا كنا صغارا أمام المعتقدات الجديدة والفلسفات والاكتشافات والفنون، فهل تعمل هذه التلافيف اللزجة داخل جماجمنا كما تعمل تلافيف نسرينة داخل جمجمتها؟
التفتُّ إليها، كانت تحاول باجتهاد إنزال نافذة السيارة، ثم التفتُّ إلى أزرار التحكم على يساري فوجدت نافذتها مغلقة من عندي.
سألتها وقد تكوّنت فكرة ما في خيالي:
- نسرين، ما تريدين؟
نظرت إليَّ بارتياب كما ينظر الكبارُ جدا عندما يسألهم الأكبر منهم، نظرة أخافتني لما حملته من معاني الانقطاع عن الخلوة والولوج في حلقة تواصل مع موجود آخر، نظرة نافرة تشبه نظرة "بن كنغسلي" في فيلم Selfless قبل أن يصير ذا هوية أخرى في الآلة الغريبة. أو بتصوير أبلغ، كانت نظرتها وشعرها الفوضوي المعلق في الهواء أشبه برأس "ميدوزا" وعينيها المجوَّفتين في لوحة لكارافاجيو.
أجابت إجابة تبريرية -وهذا ما نفعله دائما عندما نحاول فعل شيء خفية ثم نُكشف-:
- أريد أن أرمي هذه القارورة من النافذة.
حركت أصابعي إلى أزرار التحكم بخفة، قلت لها:
- هيا ارميها.
- لكنها رفضت أن تفتح!
- حاولي.. بقوة.
انصرفت إلى النافذة وتركتني، ابتسمت حين تصوَّرت حسناء تمر بمشاكل اجتماعية تتحدث إلى قدِّيس في ذات النهار من 2016 ثم تنصرف مرتاحة البال، لكنها لا تلبث أن تعود كما فعلت نسرينة. قالت بعد أن جربت زر النافذة وزر الباب وفتشت في الأعلى وفي الأسفل:
- رفضت.
سوَّلت لي نفسي أن ألاعبها، أو لأكون راويا حريصا لأتلاعب بها. قلت لها:
- قولي له: افتح يا حبيبي.
نظرت في عيني متسائلة، ثم قالت له: "افتح يا حبيبي". ولقد اخترت لفظ المذكر لأزيد المشهد شذوذا ولاواقعية، فلم يكن معنا كائن مذكر آخر، ولم يكن طلب "افتح يا حبيبي" مما يوجه إلى النوافذ الإناث. شعرت وقتها بأن الفص الأيسر من دماغ نسرينة يتردد في تأليف أسطورة صغيرة.
قربت فمها من زر التحكم وهمست برقة:
- افتح يا حبيبي.
فنزلت النافذة إلى المنتصف. نظرت إلي بسرعة. رأيت في ملامحها ما أراه في ملامح المؤمنين الخاشعين عندما تتحقق دعواتهم. فرحت معها بصوت عالٍ:
- هييييي، لقد سمع صوتك.
ثم وضعت إصبعي على زر التحكم. رمت القارورة، ثم عادت إلى مقعدها وقالت بثقة:
- افتح يا حبيبي.
وكانت تقصد: "أقفل يا حبيبي". فارتفعت النافذة. أو فرفعَ لها مخلوقها العظيم النافذة ملبيا طلبها الصغير.
بعد عدة محاولات من الطلب والتلبية، اختارت أسطورتها أن تخونها، فعلت هذا لتستحث فيها المزيد من الضراعة والإخلاص. حدث هذا فعادت إلي شاكية:
- لم يفتح لي.
- لماذا؟
- لا أدري.
- قد يكون غاضبا منك؟
صمتت، قالت:
- غاضب؟
- ما رأيك أن تجربي إرضاءه؟
- كيف؟
طلبت منها أن تضع يدها على الزر بحنان، أن تهمس له: "افتح يا حبيبي، هيا لأجلي".
- واو، لقد فتح لي.
قالت مبتهجة، ثم عادت تضغط الزر وترفعه لتختبر رضاه عنها.


وكما في القصص الطويلة، قررت أن أدخل شخصية أخرى في أسطورتها. وبالتأكيد كان هذا الشخص أنا. حدث هذا تحقيقا لرغبتها في رؤية نافذتي تستجيب لي وتفتح. لا أدري لم عُرض في ذاكرتي تلك اللحظة شريط من الصور لرجال دين مسلمين يضطهدون مواطنين نصارى في مدينة عربية ما. قد يكون هذا تشبيها غير بلاغي، لكنه لم يكن تشبيها، بل كان ألبوما صعد من اللاوعي. لكن ألا يكون رجال الدين المسلمين هؤلاء يطالبون النصارى بما تطالبني به نسرينة؟
حنيت رأسي لزر نافذتي، وقلت له:
- افتح يا حبيبي.
لكنه تحجَّر ولم يفتح. فلم أجد بُدا من البحث عن وسيط بيني وبينه، وسيطا له تجارب عميقة معه وله كرامات. قلت لنسرينة:
- نسرين.. هيا اطلبي منه أن يفتح لي.
فهزت رأسها، وحركت جسدها حتى جلست على فخذي، وقالت له:
- افتح يا حبيبي.
لكنه لم يحترم جمالها فواصل التحجُّر، وتخيلته ينظر إلى أطفال غيرها. أنا شخصيا شعرت بالمنافسة، فكوني أنا المتحكِّم والحبيب والقديس والمرجو والراجي جعلني أعترف بأنني أعظم منه هو الذي لا يتجاوز أسطورة في ذهن طفلة في الرابعة، فدفعتني أنانيتي للتلاعب به، وكان تلاعبي به ينعكس على نسرينة فتيأس وتخجل من صوتها.
- افتح يا حبيبي. افتح يا حبيبي. افتح يا حبيبي.
وفي المرة الثالثة نزلت نافذتي. صحنا أنا وهي انتصارا. وصارت "المرة الثالثة" مرحلة مقدسة بالنسبة إلى نسرينة. فكانت في كل مرة تقاسي جفاء الأسطورة الحبيبة تكرر هذه الصلوات ثلاثا فتنفتح لها كل النوافذ. وحقا انفتحت كل نوافذ سيارتي عندما ضغطت على الأزرار الأربعة.
لكن هذه الأسطورة لم تكن تطربها صراخات الانتصار والسعادة. كانت تحب أن ترى طالبيها حزينين وخاشعين ومشغولين بها. فهي تحرمهم من إجابة الصلوات لأنها تريدهم قريبين منها، لأن أصواتهم المبحوحة الدامعة تلذ لها. أما إذا أرادت أن تقصي أحدا لأن صوته الخشن لا يبعث في نفسها الراحة فإنها تستجيب له لئلا يعود صوته يزعجها. وهذا ما حدث معي عندما استجابت لي ولم تستجب لنسرينة.
قالت نسرينة:
- لماذا لم يفتح لي؟ غاضب؟
فأجبتها عنه:
- نعم غاضب ولن يفتح لك مرة أخرى.
وكانت تراه ينعم علي بالإجابات، فيفتح نافذتي أو نافذتها أو النافذتين في الخلف. غضبت نسرينة وضربت النافذة بيديها، ثم عادت إلى مكانها تتنفس بسرعة، ثم عادت إلى النافذة وبصقت عليها.
شعرت بالسخرية منه، لكنني لم أكن أسخر إلا من نفسي. وسخرت من نسرينة أيضا. وهنا نبت الحسد في قلبها الرقيق، وصارت "قابليل" حاقدت يخطط لقتلي. ضربتني بيديها وبصقت علي. فافتعلت الغضب منها ونهرتها.
- لا تفعلي هذا مرة أخرى.
انتقلت إلى المقاعد الخلفية، وانكمشت في فراغ  يضع فيه الركاب أرجلهم. صمتُّ أتأمل كل هذه الأحداث التي تولدت من مجرد استجابة عشوائية لهذه العبارة العاطفية "افتح يا حبيبي". وفي الوقت نفسه لم أحتمل هجر طفلتي الرائعة، فصلَّيت للأسطورة أن ترضي قلبها عني.
نزلت النافذة بتلقائية بفعل مُحب مهجور في مكان ما بعيدٍ عن حبيبته، وهب هواء ساخن حرك شعر نسرينة، فالتقت عينانا الساخرتان من الأسطورة، وضحكنا.
بعد ربع ساعة من الانتظار، مددت جسدي متثائبا، ثم أحسست بقبلة على عضدي الأيمن.


* هذه المشاهد حقيقية، ونسرينة الجميلة هي طفلتي. 

4 التعليقات:

ولا أروع طريقتك في الوصف لا تزال تأخذ بلبي

وصف رائع بالفعل

ماذا يدور في أذهان هولاء المخلوقات ذات الدبيب السريع والعيون الملأى حياة وصفاء!

سؤال يومي يخطر لكثير من الأهل والمربين! :)

============
الله يخليلكم نسرين ويحفظها

ويجعلك ماردها المفضل على الدوام

غير معرف هو بروميثيوس؟
أشكرك يا صديقي وحضورك يبهجني دائما

هيثم
المخلوقات ذات الدبيب السريع وصف أروع
فالدبيب ليس الحركة الفوضوية، بل الحركة العاملة الهادفة.
أشكرك على هذا الوجود الجميل

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.