لقد نمتُ بالأمس مطمئنّةً لرحابة سريري وأنا أفكّرُ في إمكانيّةِ أن يصيرَ وطنًا لا تحكمُهُ الأفكارُ الفلسفيّةُ أو المبادئُ الاشتراكيّة، وأكون فيه السّلطة الوحيدة التي لا تُنتخَبُ أصلًا ولا تُقام ضدّها ثورة، وإذا كان التمرّدُ ضروريًّا فليكنْ أنا أيضًا، بشعرٍ "منكوش" ربّما وثوبٍ يبتعدُ عن ذوق القبيلة، ولتُحدثْ أحلامي صرخةَ الاعتراضِ الكُبرى..
بقيتُ أعدُّ النجوم التي تخيّلتُها خارج هذا السّقفِ الأخضر حتّى أغمضتُ عينيّ وسقطتُ في الحفرة العميقة المليئة بالزّفت، وعندما فتحتهما كان الصّبحُ قد مدّ يدهُ الرّحيمة وانعكس على يدي كأنهُ يصافحني بالطّريقة المُثلى التي تتمنّاها أيّ أنثى تستيقظُ للتو.
كان سهلًا عليّ أن أرقص في هذا الاحتفالِ البهيج على صوت الرّيح التي تلعبُ بشجرة البرتقال وتقبّلُ الستارة دون شبع، وبعد دقائق تحوّلت الحياة في نظري إلى كوب قهوةٍ وسيجارة "Gitanes" الزرقاء، وصارت متيقّظة وحزينةً مثل كلّ الشوارع في بلادي، مثل كلّ الأطفال الذين يفتحون أعينهم على فقدان ألعابهم فيسكرون رغم كلّ شيءٍ ويرقصون، أمرٌ لطيفٌ حقًّا ومُسعِد أن تتحدّى خوفكَ وأنت تدركهُ تمامًا، أليس كذلك؟
فكّرتُ وأنا أنتظرُ الماء حتّى يغلي بارتداءِ قميصٍ أسود تكون ياقتهُ عاليةً ومنتصبةً، ووضع قرطٍ صغيرٍ جدَّا يلمعُ بحرًا ويضربُ شواطئ أذنيّ بالصوت الذي يُعينني على تحمُل الضّجيج، وتذكّرتُ أبي يوم كان يقول "هاتي قهوتكِ السيّئةَ وتعالي" فضحكتُ لا شعوريًّا، وتنحنحتُ كأنني أطردُ ما تبقّى من ابتسامتي نَفَسًا معقّدًا ومليئًا بالحنين
حاملةً كوبين من القهوة، اقتربتُ من غرفة أمّي التي كانت تطوي غطاءها وتنعكسُ الشّمس على غلاف رأسها الغزالي فحَييتُها بعيني وابتسمت لي في المقابل، وبعدها خضنا لقاءنا الصّحفي اليومي الذي ركّزتُ فيه على قدسيّة عيني أمّي ولونهما الزّيتوني
ابتَسَمَتْ حين كنتُ أجيبُ باقتضابٍ شديدٍ وأحرّكُ شعري بعد كلّ جواب، فوجّهتْ لي السّؤال العبثي "ما بكِ؟" وحين أتعرّضُ لحاجزٍ كهذا، أبتلعُ أيّ شيءٍ ثقيلٍ حولي وأغص، أحرّكُ عينيّ في كلّ الاتجاهات وأنا أقول "هيّا، لا بدّ أن يكون هناك شيء" وأخيرًا أرفعُ حاجبيّ وأعلّقُ على الطّقس.
نزلتُ إلى الشارع، أمشي على مهل، أصافحُ الشّتاء الرّفيقَ وأنعَمُ بصوته المبحوح، أمتنُّ لكلّ ورقةٍ يحملها برفقٍ ولكلّ شجرةٍ يحرّك ذراعيها ويقول لها "أنت حلوة"، وكانت أشجارُ الخوخ التي بدأت بالإزهار تستوقفني، خدودها البيضاء الرّقيقة التي تشبهُ كلّ اللحظات النّاجية من الحرب، وكلّ الوجوه التي استطاعت المقاومة دون أن تذبل، والسّماء؟ إنها مثل ذراعك يا صديقي، ينفرُ منها الغيمُ كما تثور أوردتك، ويُسْمَعُ منها صوتُ عصفورٍ كما يزقزقُ في ساعدك قلبك، كان النّاسُ يتوزّعون بعشوائيّةٍ، وكم كان سهلًا أن ألاحظَ العشاق الذين يعبّرون عن انتظاراتهم بلذّةٍ، ويحملونَ حقائب جنونهم على ظهورهم ويتجوّلون، لهمُ العالمُ ممتدًّا على قدر اتّساعِ خطواتهم وبراعتهم في الرّقص
حين وصلتُ، واكتشفتُ أنني تأخّرتُ عن عملي ربع ساعة، قلتُ في نفسي بعد أن وضعتُ يدي على الزجاج البارد "لم يكن وقتًا ضائعًا ما دمتُ قد استمتعت فيه"
على الهامش : هذه التفاصيل تعود إلى الخامس من آذار من هذا العام وقد كان آخر عهدنا بالشتاء!
2 التعليقات:
تمرد صغير وبسيط على "القهوة" في التدوينة :)
شاي وفقط شاي مع هكذا أجواء
-----------
استمتعت بالقراءة.
المجدُ للشاي، صديق الشتاء والحنين
أهلا بك
إرسال تعليق