18‏/03‏/2016

تفاصيل (5)~ بين الصحو والنوم



التّاسعة مساءً،

ضوءٌ خفيفٌ يلدهُ زجاجُ الباب، يخترقُ صوتُ مولّدة الكهرباء نوم الإله، ويصيحُ ديكُ جارنا بصوتهِ الغريب، وإذا ما أنصتُّ تمامًا قد أسمعُ صوت أنفاسي، تكّات الساعة الرماديّة، والموسيقى التي قد أحدثُها في حال تقلّبي، وربّما تردُ إليّ ضحكةُ أخي من الغرفة المجاورة، لكنّ أكثر الأصوات وضوحًا هو خرمشةُ الريح على ستائرِروحي، وصوتُ الفحمِ الذي يحترقُ حين يلامس جسد طائرٍ يُشوَى، وحفيفُ القهوةِ بالدلّةِ النحاسية وهي تخضعُ لتلاعبِ النار حتى تتعتّق.
تبدو هذه الأصوات مخيفة بالنسبة لي، فأتكمّشُ بثوب المساء وأحركُّ عيني في كلّ الاتجاهات، وأنا أنادي بصمتي مستذكرةً كلّ التهويداتِ التي أحفظها حتّى أنام، وأسقط في سكونٍ تام، وأصير جسدًا مسطّحًا، وحتّى تنعم روحي  بقسطٍ من الراحة،  بهدنة، بممرٍ إنساني يمتدُّ على الشريط الحدوديّ بين الواقع والخيال.

حين أبدأ بالغناء الخفيف تتهدّلُ أطرافي، وأتركُ الثوب الأسود مكتسبةً خفّة المسارات التي يمليها اللحن علي، أرى يدًا تمتدُّ لتمسّد شعري، وأخرى لتردّ عليّ الغطاء، وأخرى لتقيس حرارتي ويدًا أخيرةً لتردّ الستارة وتطقطق أصابعها، أغمض عيني الثقيلتين وأتنفّسُ بانتظام، وكم من الجميل أن أكتب الآن بعد النوم:

أنا في أرضٍ واسعةٍ ومعشبة، فيها بقرةٌ ضخمةٌ وأطفال فضوليّون يتناوبون على حلبها، وشقائق النعمان كثيفةٌ تجذبُ عاشقَين لالتقاط صورة، على جانبِ الأرض بيتٌ حجريٌّ مهجور يضفي مسحة الحنين بتاريخ بؤسه ووجهه الدّميم، يظهرُ في الحدّ البعيد بناءٌ عمرانيٌّ لم يكتمل بعد، ويُلحَظُ مرورُ بعض الغربان الوديعةِ بين الحين والآخر
أنا أرتدي قميصًا أبيض منقطًّا بالأزرق، وبنطالًا بحريًّا وصندلًا عسليًّا، وأبدو مثل تمثالٍ شمعيٍّ  حتّى أنني أشك في كوني حقيقيةً أم لا، أليس جميلًا في كلّ الأحوال أن يتمتّع تمثالٌ بكلّ هذا ويمتلك فرصة الحركة ومراقبة الربيع؟
لا شيء هنا ينذر بالسّوء، وكلّ النّسمات تتوزع بالعدل على الأعشاب القصيرة التي لا تعاني من التقصّف أو الدّهس، أقول: "المجدُ لكأسٍ من البرتقال في هذا الطّقس البهيج"، فيرفعُ طفلٌ رأسهُ ويمدُّ لسانهُ ثم يعلق: "ستشربين الحليب" فأضحك.
أنا الآن أضحكُ في حلمي
وأودُّ أن أستيقظ حتى أعثر على الطّفل وأقبّلهُ فرغم كل شيء يبدو الطّفلُ بعيًدا جدًّا!  

5 التعليقات:

الوصف بديع وحالة التفاصيل متقنة.
أشكرك.
---------------------
كأنني كنت حاضرًا عندما قال الطفل "ستشربين الحليب". :)

إنها كناية أعني بها كلّ المسؤولين عن بؤسنا بلا حراك.
أهلا بك

صباح الخير
الشكر موصول لحضورك

نعم لقد كان طفلا مستفزا وشقيا

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.