18‏/03‏/2016

قصة قصيرة: سمكةُ عبدُه (1)





لا تهملوا كلامي. دعوكم من كلام الكتب واستمعوا إلى حديث الحياة في وجهي وفي مفاصلي. أين نمتم آخر مرة؟ قولوا لي أين نمتم؟ فإذا لم تجدوا إلا فرشكم الناعمة الواسعة فاستيقظوا. إن الحب لا يدخل غرف الملوك. أنا لست كاتبا. إنني صيَّاد سيء الحظ. ولئن وجدتم كلماتي سهلة فلا تسخروا من لغتي. فقد علمتني الأسماك أن أرمي طُعمًا واحدا وأنتظر. ببساطة أنتظر حتى يهتز الخيط أو أسحبه بحذر لئلا يعلق بين الصخور ثم أعيد الرمية إلى نفس المكان.

نمت على الشاطئ أربعين ليلة. لن أنزعج إذا لم تصدقوني. أربعين ليلة اكتوى جسدي بلهب النهار وارتجف في نسيم الليل البارد. مزَّقني الجوع كما يمزق الجفاف جذوع الأشجار العالية. لم أنقضَّ على أكتاف الجذوع المجاورة ولم أنل الجذوع الأعلى مني. كنت راسخا في مكانتي وموقعي الاجتماعي الدقيق الذي لا ينساه أي أحد. لذا عاهدت نفسي على الاعتكاف في البحر حتى حين. وكان البحر هو المكان الذي لم أحتج إلى رفيق أو بطاقة لدخوله. فاستوطنته حتى تعلم دمي كيف يتموَّج مثل مائه وحتى تعلمت رئتاي كيف تتسعان وتضيقان مع مده وجزره.

وفي تلك الليلة. الليلة التي كانت أخيرة لسبب ما يجب أن تعرفوه. في تلك الليلة توقفت عن أن أكون بحرا وعدت إنسانا يتدفق فيه الحنين تدفُّق العيون بين ثنايا الجبال. كنت قد استأنست مرقدي في ذلك المكان العام الذي يجتمع فيه الناس. كل الناس كانوا يأتون إلى البحر.. إليَّ.

أنام ساعتين عندما تكون الريح معي وأكثر عندما تكون ضدي. أبقى أياما أغتذي بالماء وما يجود به علي الصيادون الرفاق من طُعوم سمك "الباغة". لن تعرفوا هذا النوع من الأسماك أيها النيام على أسرَّتهم الجامدة. رائحته الكريهة وقسوة جلده تساعد الصيادين على إغراء الأسماك الأخرى. لكنني كنت أملِّحه وأقليه مضطرا حتى أسغته كما تسوغون أوهامكم.
وفي تلك الليلة، غاب عني الرفاق وهجمت ريح عاصف على بيتي. فتكسرت أمواجي وتطايرت أسماكي. لم أستطع النوم فصنعت خيطا جديدا وضاعفت أثقاله ثم رميته بكل غضب. كنت أردد في نفسي: "فليشرب أهل هذه المدينة الصامتون صدأي.. فليأكلوا أشواكي". ولم أكن حاقدا إلا على هذا الفرق الذي شعرت به: أنا في عالم والناس كلهم في عالم آخر.

ثم حدث الحب.
الحب يحدث حدوثا ولا يأتي إتيانا. تكون أنت وإنسانٌ آخر في مكان ما ثم يحدث الحب.

أحسست بقوة تشدُّ ذراعيَّ إليها. توقعت أن حوتا ضخما احتضن شوكتي ليصطادني. شددت بقوة ثم حاولت تبسيط الأمر وقلت إن هذه صخرة لئيمة ربضت على طُعمي. لم يكن هذا جديدا. ففي تلك الليلة كنت قد أحصيت عشرات الخيوط التي مزقتها لهذا السبب التافه. وكما قلت، لأنني صياد سيء الحظ كنت دائما أثير سخرية الصيادين الآخرين وشفقتهم. فبعد أن أعلن عن نبأ سمكة من نوع "العربي" وأتراقص شادًّا الخيط نحو صدري، كنت غالبا أكتشف أنني سحبت زوجا من "الكابوريا" أو مجموعة من حشائش البحر!
لكنني هذه المرة، رغم أنني أخرجت شيئا آخر غير السمك، واصلت الرقص.

تحلَّق حولي الصيادون يشجعونني ويشدون معي الخيط. قال أحدهم جادًّا: هذه سمكة كبيرة ستأكل منها أسبوعا كاملا. وقال آخر ساخرا: هذه صخرة ترقص معك. وقال آخرون: هذه سفينة.. هذه حورية بحر.. هذا صرصار عملاق. لكنني قلت: انتظروا.
شمَّرت ثوبي البالي وتنفست بعمق، قلت في نفسي: إنها تهز الخيط، لا تفعل هذا إلا الأسماك. وواصلت الشدَّ بعزمٍ حتى ارتخى الخيط. بُهِتَ أصدقائي وعادوا إلى صنَّاراتهم الشاهقة فتوقعت أن البحر يمازحني.

لكن البحر لا يمزح أبدا. لم يزل الخيط داخل الماء، فسحبته مُتعبا ويائسا، ثم لاحظت أن الشد لم يزل مستمرا. ما هذا؟ إنها شوكة أخرى عالقة في شوكتي. حاولت إخفاء الأمر عن رفاقي لئلا يشيعوا بين الصيادين آخر خيباتي. أمسكت بالخيط الآخر واستخرجت منه صنارتي. ثم جلبته إلى الرصيف غيرَ مهتم بنداءات الرفاق وأسئلتهم وضحكاتهم. تتبعته ولم أدرِ أكنتُ سمكةً في هيئة رجلٍ في الخامسة والثلاثين رثِّ الثياب والمنظر؟ أم كنت صيَّادا متواضعا يسير نحو سمكة في هيئة أنثى في منتصف العشرين تضع حول يديها قفازين ويتدلى الخيط خجولا من يمينها الذابلة؟


هذا كان صيدي في اليوم الواحد والأربعين، في تلك الليلة. 

تتمة القصة في الأجزاء الآتية. 

2 التعليقات:

متأسف يا أيها الصياد سيء الحظ ولكن حتى أنت وبحالة يومك هذه لا أتفق معك في أن "الحب يحدث حدوثا ولا يأتي إتيانا"

أظن واحدًا من أعمدة المشاكل البشرية في عصر الحداثة وما بعدها (كلام كبير! :)) هو التشييء. لا أظن الحب يحدث ولا يأتي حتى (ليس بالمعنيين الذين أتصور أنك قصدتهما في التدوينة). فعلنا المتمثل بتشييء حالة أو صيرورة الحب غير دقيقة (هي عملية بصراحة، بخاصة لمن يحب شعور الحي ويغرق في ذاك الشعور).

المهم، بانتظار التتمات :)

يرد عبدُه بجلافة الصيادين ومرحهم: إذا لم يحدث ولم يأتِ فما يفعل؟
"تكون أنت وإنسانٌ آخر في مكان ما ثم يحدث الحب"
هكذا يشرح ببساطة حالة الحب ويدعو العالمين إلى القفز من أسرّتهم والسير في هذا الكون متهيئين للحب.

شكرا لك هيثم وانتظارك يشجعني

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.