أنت لا تهتم بنفسك
أنت لا تهتم بنفسك، تمنح الآخرين أجمل ما عندك، ولا يمنحونك حتى الشكر، تجوع ليأكلوا، وتسهر ليناموا، وتتعب ليرتاحوا. يالك من نبيل!
لستُ أنا من يقول هذا، بل أنت. ولو طلبت مني أن أقول شيئا، لقلت "أنت لا تهتم بنفسك، تمنح الآخرين أجمل ما عندك، ولا يمنحونك حتى الشكر، تجوع ليأكلوا، وتسهر ليناموا، وتتعب ليرتاحوا. يالك من ضحية!".
ضحية من؟ ضحية نفسك التي تحاول أن تساعدك ولكنها تفشل. نفسك التي تطوَّعت للتخفيف عنك بمواساتك. فأنت حين استسلمت لاكتئابك وقبِلته، اضطرت نفسك الحنونة إلى تسويغ إهمالك لها بهذه الكلمات اللطيفة. فالنفس لا تتحمل الألم، لذا معظم المكتئبين يعيشون حياة تبدو لهم مُبرَّرة بحيوات آخرين، ولذا معظمهم ينكرون أنهم مكتئبين ويصفعون من يدعي ذلك.
إن نفوسنا مخلوقة للتكيُّف مع الألم والحزن عندما يكون الألم والحزن عارضا. وهذا أجمل ما فيها؛ لأنها لو لم تكن كذلك لانهارت حياتنا في لقاء أول صدمة.. ولتكسَّرت أجنحتنا أثناء أول محاولة للتحليق إلى بيئة أخرى أكثر عافيةً وسعادة. ولكننا لسنا في مأمن من هذه الطاقة العالية على التكيُّف، إذ قد يحدث أن تتكيف أنفسنا حتى مع أنفسنا. هاه؟ نعم، ننقسم إلى نفسين؛ نفسٌ تعاني الألم، وأخرى تبرره. وهذا ما يحدث معنا جميعا، حين نستلم مرتَّب آخر الشهر ونسلِّم نصفه أو ثلاثة أرباعه إلى الدائنين وذوي الحق من الأهل، نتعلل بأننا نلتمس الراحة والأجر، وأننا نجد شعورا عذبًا برؤية الزوجة والأبناء يرفلون في نعيمنا وعطائنا. نطلق على أنفسنا "كُرماء" ونحن في الحقيقة على حافة الإفلاس. هذه حالات طبيعية نعيشها كل شهر، وربما كل يوم. يحدث هذا معنا ونحن نعي أنه يحدث، وندرك أننا سنحسِّن من وضعنا في الشهر القادم. ولكن معك أنت، يحدث هذا بحيث لا تعيه. ليعطيك أسبابا كافية لإهمال نفسك.. للمزيد من العذاب. لا داعي للمزيد من العذاب كما ترى، ولا داعي للمزيد من التعلُّل بالكرم والنُّبل والتضحية. هذه صفات مثالية للذين يكونون أولًا كرماء ونبلاء ومضحين مع أنفسهم. وفي الوقت الذي يصبح فيه كرمك مع الآخرين نوعا من كرمك مع نفسك، أتمنى أن أكون قريبًا منك لتهديني مرتب آخر الشهر كاملا!
إنك، لمَّا لم تجد بُدًّا من معايشة هذه الحال، التزمت بمبادئَ مثالية (كالتضحية) لئلا تشعر بالهزيمة. هذا يعني أنك مُتكيِّفٌ ممتاز. فلم لا تتكيف مع حلولٍ جديدة بإرادتك هذه المرة؟
لا إخال أن ما أريد قوله وصلك كما أريد أن يصلك. لأنني أتوقع أن تكون واقفًا عند العنوان منذ بدأتُ الكتابة. محاولًا تقبُّل نقد صادم كهذا. وباحثا عن مبررات تجعلك تتكيف معي أيضا. إذا كنتُ محقًّا فأنا أعتذر عن كل شيء، وأقرر ألا أخبرك بما كنت سأقوله. تصوَّر، أنني كنتُ سأدَّعي أنك (تكره) نفسك. أبدًا، أنت لا (تكره) نفسك.. لأنك لو كنت (تكره) نفسك ما قرأت شيئا مثل هذا. كم مرةً قلتُها؟ ثلاث مرات. لأعطيك ثلاث فرص لتأتي إلى هنا، وتركِّز جيدا في ما أقول. أشعر الآن أنك وجدت مخرجًا منحتُك إياه أنا. وهو أنك لا تكره نفسك بدليل أنك تقرأ هذا الموضوع. وأشعر أيضا أنك تقرأ هذا الموضوع لتبرر استعصاء حالتك، ولتقول لأول طبيب تقابله "حاولت كثيرا.. وقرأت كثيرا.. ولكن كل هذا لم ينفع". ولكنني أشعر بهذه الطريقة اللئيمة لأنني أفترض أنك قارئ مكتئب ومتكيِّف محترف، فقط هذا ما يدفعني لشعور كهذا.
كرهُك لنفسك فكرة يصعب أن تتقبلها؛ لأن نفسك ستبني حواجز لاواعية حتى لا تمكنك من التوصل إلى حقيقة كهذه. قل لنفسك "شكرا، لا أريد منك هذا المعروف"، وقم بمخالفتها كلما شعرت بلذة التضحية في سبيل الآخرين. كن أنانيًّا لمرة.. لمرتين.. لثلاثٍ حتى تسترد أسلوبك الخاص في التفكير واتخاذ القرار المعقول.
لا تنس شراء عطرك المفضل الذي لم تشترِه منذ سنوات.
0 التعليقات:
إرسال تعليق