21‏/07‏/2015

نباتٌ يُشاهَد ولا يؤكل: بين المثالية والبدائية في الشعر.






وأنت تستمع إلى ألبوم (مش كاين هيك تكون - لفيروز)، ستجد أن العشر أغنيات التي تترتب فيه كما تترتب أوراق الغاردينيا، كلها جميلة ومؤثرة، مؤثرة من الناحية التي تخصنا، والتي ننظر إليها إلى الآن ببعض الغموض.
ما يهمنا منه -الألبوم- هو الأغنية التاسعة، والتي سمّي باسمها. واخترت أن أتناول القصيدة من الألبوم وليس من الديوان لسرّ الترابط اللذيذ بين القصيدة والأغنية في إطار موضوعنا، وللسبب الذي سنعرفه قبل أن ننهي القراءة.
لو شئنا أن ننظِّر، سنقول: على كل حال، لم يضطر الإنسان إلى قول الشعر إلا لسرٍّ فيه -أي الشعر- لا يتمتع به كلامه العادي. لأمكن أن نحظى ببعض القبول من الناحية المنطقية. فبينما نحن نستقرئ الواقع الذي يمتد حتى الأزمنة التي ما زال يحيط بها غموض (ما قبل التاريخ) سنجد أن الحياة كانت عادية، تدور حول بعض الحطب والطرق الأخيرة المبتكرة لإشعال النار [قراءة الجزء الأول من قصة الحضارة لوِلْ ديورانت ستؤكد هذه الرؤية]. إنسان ما قبل التاريخ لم يكن لديه الوقت ليقول. إنه يشبه الجنين الذي ما زال يسمّى في التصنيف المعرفي INFANT أي غير متكلم. فهو يفعل، ويستمتع بأفعاله. يتذوق بعض أنواع المشروم ويتسمم، ثم يكون مناعة (القرف والتوجس) ويصبها في خليج أجياله القادمين. بعد أن تمكن الإنسان من إدارة حياته، قرر أن يستريح بعض الوقت في ظل يومٍ صائف يهبُّ برائحة زهور الأرض التي قرر أيضا تصنيفها ضمن قائمة (نباتٌ يُشاهَد ولا يؤكل). كانت الكتابة قد أمست حضارة. ولكنها لم تزل تتردد بين أثمان الفجل والبقدونس، والبضاعة القادمة من كل مكان، وبعض الديون.
الكتابة جاءت لتصنع من الجلوس في الظل ظهرًا قصيدة. أو يمكن القول أن الجلوس هو الذي جاء بالكتابة. شعر الإنسان بالبهجة وهو يرى ظروفه ومشاكله وحاجاته تخرج في كلمات -ولو كانت كلمات بدائية وبسيطة- وتحظى بالحفظ لتُقرأ على ألسن الذرية.
زادت الرفاهية. فقادت نفس الإنسان المحترق بانعكاس الظل، إلى الرقي قليلا وممارسة كلامٍ ذي قيمة أكبر من قيمة الكلام الإنشائي البسيط والبدائي. اخترع الشعر ومن ثم جعل الموازين الموسيقية والموازين المفرداتية له. "ليست كل فكرة تُقال فتصبح قصيدة" هذا صوته الذي ما زلنا نردده.
يبدو أننا لم نضف الكثير إلى القصيدة. أعني القصيدة بعمومها. وتبدو محاولة كهذه صعبة. نعم لقد حاول الأسلاف المحترمون الكثير من المحاولات. لقد صنعوا شعرا غنائيا وأشبعوا الاحتفالات والمواسم ببذخهم اللغوي، وحشروا القصيدة في جوقة من الرموز الموسيقية التي يُعد الخروج عنها خزيا على الشاعر، ولكن هذا لم يكفهم فخرجوا حتى من بحورهم الشعرية واستعملوا الجَزء والشطر والنَّهك (أحوال مختلفة يقل فيها عدد تفعيلات البيت الشعري)، وتلذذوا بالموشحات وبالتفعيلة وبكل الألوان التي يمكن أن يلوّن بها فضاء الشعر اللزج.
كل الذي فات هو تعليق تخيُّلي حول النظرية التي بدأنا بها، وهي بلا شك نظرية تخيلية أيضا لتوضيح الفكرة. ماذا بعد؟ لقد عرفنا البداية والتطورات -ولو بطريقة سريعة جدا- ويجب الآن أن ندخل في الموضوع مباشرة!
ما هو الجانب الشاعري من هذه الكلمات؟
"كان غير شكل الزيتون
كان غير شكل الصابون".
أليس هذا هو ما بدأ به الإنسان البدائي على حد تصورنا عنه؟ هل العودة إلى البداية هي القرار الذي يتردد إنسان هذا القرن في اتخاذه؟ يبدو أننا لم نتغير كثيرا ذلك التغير الذي يجعلنا منفصلين بالمعنى الثقافي. كل شيء يتطور في المصانع ويصبح حديدا. ولكن هل ازدحام المفردات الشعرية في ديوان الإنسان يضطرنا اضطرارا إلى الانتكاس وإعادة النظر إلى انفعالات الأشياء وتفاعلنا معها كما نظر إليها شاعرُ الظل ذاك؟
الانتكاس صعب. ولكن ليس في حضرة الأداة العلمية التي أهدتنا إياها تجارب إنسانٍ لم يجلس تحت الشجرة ليتأمل، بل ليرصد حركة الأرض وموقعها بين الكواكب. بإمكاننا مثلا أن ننظر إلى جزيئات الماء بدل النظر إليه بعين العطشان في صحراء عربية يلهث خلف ناقته التي ضاعت.
"الزيتون والصابون" في شعر الأخوين رحباني لهما عذوبة خاصة. وأداء قصيدة كهذه في أغنية هو ما نحتاجه لندلل به على إمكانية صنع فنٍّ من التأملات البسيطة.
"كان غير شكل الزيتون كان غير شكل الصابون
و حتى إنتا يا حبيبي مش كاين هيك تكون".
هذه هي الملاحظة إذن. وهذا هو الانتكاس المحبب الذي قصده الأخوان رحباني. الانتكاس إلى الأشياء العادية التي ترفّع الشعر عنها في نشدان المثالية المفرطة.
في قصيدةٍ لهما (أحترف الحزن والانتظار) يقولان:
"أرتقب الآتي ولا يأتي
تبدّدت زنابق الوقتِ".
فيأخذانك معهما نحو دوّامة متسارعة الأنفاس في هذا الجو السُّريالي الذي قد تجده في لوحة من لوحات سلفادور دالي. إنه الجمع بين اللغة الآسرة (تبددت) والطبيعة التي ستنتظر أيضا وتضجر (زنابق) والعصرية التي ترتدي ساعة سويسرية (الوقت).
"إلى صقيع الشمس والبرد
لا أهل لي في خيمتي وحدي".
أظن هذا كافيا لإيضاح المدى الذي يصل إليه شاعرٌ يرى أن التكلف في الشعر هو أداةٌ لم تعد نافعة الآن.
ما هو التكلف الذي أقصد؟
هو أن يجد الشاعر حواجز لا يعرف من أين تنبثق بينه وبين أن يسمح لكلماته بالخروج منه بهدوء. إنه يعاني ويتعرّق حتى يكتب بيتا آليا وملطخا بالهزائم الذاتية، هزائمه في وجه "الأنا" المشتعل، وفي وجه القارئ الذي لن يألف بسهولة ورود كلمات مثل:
"كان غير شكل الليمون
كان غير شكل اليانسون" في قصيدته.
سيشعر القارئ بالسخف، ولكنه سيدرك في نهاية الأمر أن الشعر ليس هو الهروب من الطبيعة، بل النظر إليها بعمق ونقل الانطباعات عنها. الانطباعات التي لا يتوصل إليها أي أحد.
الدواوين ملأى بالمثالية الشعرية والأنوات -إذا صح أن تُجمع الأنا هكذا- الملونة. وبعض المثالية تثير التقزز والبرود. وكأننا توقفنا حائرين "ما بين ماضي ماهوش راضي،
ينسّيني و ينساني.
و بين حاضر ماهوش قادر،
يسلّيني في حرماني" كما يقول عبد المنعم السباعي.
لذا، سنعكس النظرية ونجعلها: "بعد كل شيء، يستطيع الإنسان العودة إلى كلماته العادية بعمق ليكون شاعرا".


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.