21‏/07‏/2015

كيف ينمو الطفلُ فكريا؟






* ديسمبر 2014

أشعر بالحماس عندما أرى الأبناء يخرجون من بين أيدي آبائهم على نظام التربية التقليدية التي تنقصها المنهجية العلمية الحكيمة. لا أريد الإساءة، ولكنني أحب أن أطمئن على كل الأطفال. أحلم بيوم يتعلم فيه الآباء طرق التعليم والتنشئة الصحيحة ليخرجوا أطفالا طبيعيين وطموحين. وبيومٍ تتحول فيه نظرتنا إلى العلم من ذلك المتهوِّر الذي يصنع القنابل الذرية والكيماوي والأمفيتامين إلى ذلك المُصلح الذي يرشد العالم إلى الخلاص ويمنحهم السلام.
وكإجابة على السؤال أعلاه، سأتجول معكم في مدينة جان بياجيه المعرفية. وسنتعرف على المراحل الأربع التي شرح بها التطور المعرفي عند الطفل فيما يدعى الآن بنظرية جان بياجيه المعرفية. وُلد بياجيه (1896 - 1980) لأب سويسري وأم فرنسية. حصل على شهادة الدكتوراه وهو في الثانية والعشرين، وعين مديرا للدراسات في معهد جان جاك روسو (التسمية جاءت من تأثر المعهد بفكر هذا الفيلسوف) في 1921. اهتم كثيرا بمعرفة الطفل حتى أنه أنشأ مركز نظرية المعرفة وترأسه حتى وفاته.
كيف نظر بياجيه إلى الطفل؟
بعد نصف قرن من الدراسة أكد بياجيه أن عقل الطفل ليس نموذجا مصغرا لعقل الراشد، وأنه ينمو على مراحل مختلفة: من الاستجابات الحسية البسيطة إلى التفكير المنطقي المجرد. (Exploring psychology - David G. Myers). وعلى هذا الأساس بنى نظريته الشهيرة ونال بها مكانته وشهرته الواسعة.
طفلُ بياجيه ينمو على أربع مراحل معرفية:
1- المرحلة الحسية والحركية (Sensorimotor): من الولادة إلى السنة الثانية. وهي مرحلة يتعامل فيها الطفل مع الأشياء بواسطة الإحساسات المختلفة: السمع والبصر واللمس والقبض ووضع الأشياء في الفم للتعرف عليها. وكأن الطفل يرى أن "ما هو خارج نطاق الرؤية فهو خارج نطاق العقل" (Exploring psychology - David G. Myers). لذا يفقد ما يسمى ببقاء الأشياء Object Permanence. فالألعاب التي يلعب بها الآن سينساها بعد وهلة إذا قام أحدهم بإخفائها عن مجال رؤيته. ولا غرابة في أن الطفل الذي يبكي لأن والده سيخرج من البيت سيتوقف عن البكاء بعد وقت قصير. إنه بهذا يظن أن والده اختفى ولم يعد. وهذا ما لاحظه سيغموند فرويد من قبل. ومن أهم حالات هذه المرحلة ما يُدعى القلق من الغرباء Stranger Anxiety وجميعنا لاحظ كم أن الطفل لا يطمئن إلا إلى أشخاص معدودين أو أشخاص يشبهونهم، أما الآخرون فيعنون له الخطر والخوف. وأعتقد أن في هذه النظرة الطفلية طريقة للنجاة من الخطر كانت قديما مهمة وضرورية وسافرت عبر جيناتنا إلينا Surviving Method.
2- المرحلة قبل الإجرائية (Preoperational): من السنة الثانية إلى السادسة أو السابعة. وفيها يمثل الطفل الأشياء في كلمات وصور، ويستعمل التفكير الفطري أكثر من التفكير المنطقي. فمثلا، عندما قاموا بإجراء اختبار لطفلة في هذه المرحلة، وقاموا بوضع كوبين أمامها، أحدهما طويل والآخر عريض، وكلاهما يستوعبان نفس الكمية من الحليب، قامت الطفلة باختيار الكوب الأطول كإجابة على سؤال "أيهما يحتوي على كمية حليب أكثر؟". وطبيعي أن الأطفال في هذه المرحلة يفتقرون إلى مبدأ حفظ الأشياء Conservation. وتعريفه أن الصفات كالكتلة والحجم والعدد تبقى ثابتة مهما تغير شكل الأجسام. ويُعرف عن الأطفال أيضا أنهم مُتظاهِرون بارعون وأنانيون. أي أنهم يجيدون لعبة التظاهر بالمرض أو البكاء أو الملكية في هذه المرحلة. وتفسير هذا التظاهر يسهل كلما تعمقنا في نظرية العقل Theory of Mind وهي لم تتطور بعدُ كليا في هذه المرحلة. فيخفق الطفل كلما جاء ليفهم وجهة نظر الآخر. لذا، عندما تشاهد التلفاز فيأتي الطفل ويقف أمام الشاشة، لا تذهبْ بعيدا وتظن أنه يغيضك. إنه فقط يرى أنك ترى ما يراه هو. وباختصار إنه يتوقع أنك تنظر إلى ألعابه لأنه هو ينظر إليها مثلا!
3- المرحلة الإجرائية المحددة (Concrete Operational): من السنة السابعة إلى الحادية عشرة. وهنا لدينا طفلٌ فكر تفكيرا منطقيا في الأحداث الثابتة ويُجري الحسابات الرياضية، كما أنه لا يفتقر إلى مبدأ ثبات الأشياء. وربما لهذا السبب يدخل الأطفال المدرسة في هذه المرحلة. فمن الواجب على والديه ومن حوله أن يتوقفوا عن معاملته كمجرد طفل مغفَّل وغير ناضج.
4- المرحلة الإجرائية المنهجية (Formal Operational): من السنة الحادية عشرة خلال مرحلة البلوغ. وهنا نستطيع أن نرتاح إلى أن الذي أمامنا يستعمل المنطق المجرَّد ولديه القدرة على الرؤية الأخلاقية الناضجة، بعد أن كانت منعدمة خلال المرحلة الأولى، وناقصة خلال المرحلة الثانية، وغير ناضجة في المرحلة الثالثة. لدينا طفلٌ لا نعلِّمه القراءة والكتابة، بل نعلمه الأخلاقيات ونحمله مسؤولية حياته.
ما الفائدة من نظرية بياجيه المعرفية؟
لقد خططت منذ أسابيع للكتابة عنها وأنا أدرك أنها ضرورية. إنها تساهم في إنضاج الوالدين قبل الأطفال، فعندما يتعامل الوالدان مع أطفالهما بطريقة علمية وتوقعات علمية سينمو الأطفال سليمين من الصدمات والنشازات في الشخصية والنظر إلى الحياة. وأنا آسفٌ جدا على حال الأطفال في مجتمعاتنا، فهم يكبرون كل يوم في عالمٍ من العشوائيات التربوية والمزاجيات. وهذا ما لا يدعنا نستهجن أن نرى طالبا في الثانوية العامة لا يتقن الكتابة، في حين يبدو ضليعا في أمور كالسهر إلى الفجر وممارسة الطفولة المنقوصة التي منحت له.
وبرغم الانتقادات التي تعرضت لها نظرية بياجيه، إلا أنها احتفظت بقيمتها ومؤيديها.


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.