21‏/07‏/2015

الفانتوم: ظواهر عقلية محيِّرة





كثيرا ما نتساءل "هل يسمع الأصم أصواتًا؟ هل يرى الأعمى صورًا؟" ولا نستطيع الجزم بالنفي أو بالإثبات. تداهمنا التساؤلات حول ما يجري في عقولنا، ونقف عاجزين عند لحظة معينة، مدهوشين بعقولنا التي أمسينا فجأة غرباء فيها، أو أمست هي غريبة فينا. تُرى لو حدث أن قابلت رجلا أعمى، ما هو أول سؤال ستسأله إياه؟ أنا سأسأله عن أحلامه، هل يرى السيارة التي أراها أنا؟ هل يستطيع وصف طير رآه في حلمه فيأتي الوصف مطابقا للوصف الذي أعرف؟
شك الناسُ منذ القدم في حواسِّهم. اتهموها بالقصور، ورفضوا أن يكونوا محكومين لها. وهذا ما ستقرأه في فلسفة ديكارت ومبدأ "الكوجيتو: أنا أفكر، إذن، أنا موجود". إذا كان لديك الوقت الكافي. ولكن هل كان هؤلاء الشكَّاكون محقين في شكهم؟ هل إلى هذا الحد حواسُّنا غير يقينية؟ إنك عندما تقود سيارتك في الظهيرة، سترى السراب الناتج عن انكسار الضوء المار بين مستويين من الهواء مختلفين في الكثافة. هل هذا الماء الذي تراه على السكَّة الساخنة أو في الصحراء موجود؟ وعندما تنظر إلى الصور، هل هي حقا كما تراها: تتحرك، تشبه وجوها، تمثِّل كائنا حيا لا تراه أنت بعينيك؟ ما الذي يحدث وكيف نفسر هذا؟ وهل نستطيع أن نؤمن يقينا بما تنقله إلينا حواسنا؟
أحد المرضى الذين تابعهم عالم الأعصاب الهندي (راماشاندران) كانت قدمه مبتورة. وعندما سُئل عن شعوره بلذة الجِماع قال "في الواقع، أنا أشعر بلذة الجماع في قدمي..." (Exploring Psychology - David G. Myers). في قدمه؟ ما هو تفسير هذا؟ طبعا تعمُّق العلماء في مناطق الدماغ وتصنيفهم لها، أرشدهم في النهاية إلى أنها تشكل مرآة معكوسة تماما لمناطق الجسد. ففي قِطاعٍ أُخذ لدماغك، سترى أن أعضاءك التناسلية وقدميك في الأعلى، بينما لسانك وفكُّك في الأسفل، على العكس. وبناءً على هذا التصنيف، فإن أي عضوٍ يغيب عنه الإحساس، ستنتقل قدرته على الإحساس إلى العضو المجاور له في دماغك. فقديما كنا نسمع أن الأعمى يملك حاسة شم عظيمة. وهذا يفسره راماشاندران وزملاؤه بأن فقدان حاسة الإبصار (في الدماغ، مناطق الرؤية تتاخم مناطق الشم) عززت من قوة حاسة الشم. وفي رأيي هذه خطة مُحكمة انتقلت بالتطوُّر منذ الأسلاف، لتحقيق غاية البقاء.
مرضى راماشاندران أقدامهم تجاور أعضاءهم التناسلية، لذا -طالما فقدوا أقدامهم- فإن من حسن حظهم -ربما- أنهم يشعرون بالنشوة الجنسية في أقدامهم غير الموجودة أصلا. وهذا ما يُطلق عليه في علم الأعصاب (Phantom Limb) ومعناه "الطرَف الوهمي". عجيب! إذن هناك ظواهر غير السراب والأشكال الوهمية يثبت فيها أننا نعيش في مدينة متقلبة من الحواس. متى نملك الحقيقة المطلقة حول ما نحس به، على سبيل التساؤل؟ هل صورتي في المرآة تمثلني أم تمثل تصوُّري عني؟! هل يمكن الاتكال على العقل في تفسير كل شيء؟
وبالإضافة إلى (Phantom Limb)، هناك الأصوات الوهمية (Phantom Sounds). فالذين فقدوا حاسة السمع، يسمعون الصمت. وهو ما يمكن أن تسمعه عندما يضربك أحد على أذنك أو تسمع صوتا مدوِّيًا؛ طنين. وربما هذا هو التردد الذي لم يفقدوا إدراكه. وكذلك هناك رؤى وهمية، نوعٌ من الهلوسات البصرية التي يعيشها فاقدوا الإبصار (Phantom Sights).. ولا تكتفي أعصابنا بخداعنا، فثمة روائح وهمية أيضا (Phantom Smells).
يصمت أحدنا لوهلة، ثم تختلط عليه الأمور. تضطرب أفكاره، حواسه، عوالمه الداخلية. يستسلم قليلا أو كثيرا ثم يعاود التساؤل: من أنا إذن؟
"علم اليقين" الذي جاء في القرآن، يعيدنا إلى حقيقة واحدة ليس أكثر. أن هناك علم غير يقيني، ولعله هو الذي نعلمه في الحياة الدنيا. وفي الأحلام، نرى صورا شتى، من شريط حياتنا الطويل، لا تجمعها أية علاقة إلا أن عملياتنا العصبية برمجتها أثناء نومنا ووافقت على تسريب مقطع ضئيل لما وراء الكواليس العصبية، هناك، في تعاريج أدمغتنا.
نحن حين نسلط ضوءا على منشور زجاجي، نرى ألوان الطيف السبعة. وحين نضغط بأصابعنا على أسفل أعيننا، نرى كيف أن (صورة الشاشة مثلا) تنفصل عن الصورة الحقيقية وتتشوه. وفي النهاية يسأل أحدهم "هل أرى الأشياء كما هي أم كما يفسرها عقلي؟" ولا أحد يلومه. فنحن عندما نتصور شكل التنِّين (أسطورة) نرى كائنا عظيما بتراكيب ثابتة نسبيا، وهو في الحقيقة غير موجود. وهذا لأننا قرأنا وصفا له في كتاب، أو سمعنا عنه. وهذا التنين ليس شيئا آخر. إنه توليف لصور شاهدناها ذات مرة.
ولا غرابة في أننا عندما نسمع عن شخص ما (لنفترض أن اسمه أحمد)، لابد أن ندرك له صورة حسية مؤقتة حتى نراه. وهذا الأحمد الوهمي (Phantom Ahmad) هو في الحقيقة شخص اسمه أحمد حدث أن التقينا به. أو أشخاص "أحمدون" اجتمعت ملامحهم المتفرقة لتشكل هذا الوهم المؤقت. وبلا شك، إن كل واحد منا يحمل صورة وهمية للشخصيات التاريخية التي يعرفها (تصورك للنبي محمد صلى الله عليه وسلم).
نحن داخل مدينة من المعلومات المحدودة. قديما كنت أتساءل "ماذا لو جاء إنسان بدائي من عصور ما قبل التاريخ ورأى جزءا صغيرا من عالمنا التكنولوجي. كيف سيدركه؟". أظن أنه سيدركه بما في عقله من صور كلية وجزئية. سيرى الطائرة طائرا ضخما لا غير!
حواسُّنا ليست متأكدة تماما من معلوماتها. نحن نملك الإرادة التي نرى بها الوجه العادي وجها رائعا، ولكننا لا نملك الدليل على أن ما نراه هو وجه أو مجرد شيء آخر. إذا حدث أن وجدنا شخصا يشبهنا تماما، لن نكترث كثيرا. بمعنى أننا لن نطالبه بملامحنا الخاصة بنا. ربما لأننا في الحقيقة نرى صورنا التي نعيشها بالداخل، لا التي تأتينا من الخارج.
وكل عام وأنتم بحقيقة.


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.