21‏/07‏/2015

الحاجة إلى الألم





بلا شك، كلنا نعرف الألم.
أحدنا يعرف ألما محددا طالت معاناته معه، وأحدنا يعرف مجموعة آلام. واحدٌ من أهم امتيازات الإنسان أنه شاعرٌ بالألم، متذكِّرٌ له.
وبلا شك، كلنا سألنا السؤال نفسه بطرقنا الخاصة: لماذا نتألم؟ هل سنتوصل يوما ما إلى الحل ونتخلص من الألم؟ ما هو مستقبل العلم مع الألم؟
وفي الحقيقة، هذه الأسئلة تتفاعل فينا يوما بعد يوم، وتجربة مؤلمة بعد أخرى. ولا أحد ينكر رغبته في الحصول على (قُرص) يبلعه فتنتهي كل آلامه!
الألم هو وسيلة البقاء، لا بد أن نتألم حتى نبقى.
ربما نشعر بالخيبة إذا علمنا أن هذه الكلمات ليست مقتبسة من فيلم لروبن ويليامز. ربما لا نصدق أن العلم الذي نعلق على كاهله آمالنا الكثيرة هو صاحب هذه المقولة، بأية لغةٍ كانت.
"البعضُ يودُّ القول بأن التخلص من الشعور بالألم شيءٌ جيد. لكن لا، إنه ليس كذلك. الألم موجود لسبب. إنه يخبر أجسادنا بأن شيئا ما خاطئا قد حدث، وهو بحاجة لإصلاح".
يكتب روس باينم معلقا على حالة آشلين بلوكر التي بعثت الكثير من الفضول والتساؤلات.. والأمنيات أيضا. آشلين بلوكر (الصورة في الأسفل) المصابة بمرض وراثي نادر، لا تشعر بأي من الألم أو الحرارة الشديدة والبرودة الشديدة. يواصل باينم تعليقه قائلًا "أودُّ أن أمنحها أي شيء لتشعر بالألم!". (Exploring Psychology - David G. Myers)



ما معنى أن نتألم أو لا نتألم؟ إن هذا السؤال شغل العالم منذ عصور الإنسان البدائي، استهلك حياة الفلاسفة وبحوث العلماء وسهر رجال الدين منذ القِدم. كل واحد منهم يريد أن يجد تفسيرا يناسب اعتقاداته. فالفلاسفة أمثال (جيرمي بنثام) جعله أحد رُكني فلسفة الحياة (الفلسفة النفعية) وادّعى أن الأعمال لابد أن تجلب لنا السعادة أو الألم، وأنها يجب أن تُحاكم إلى هذين الشعورين. أما (ماركيز دي ساد) فادَّعى -عبر رواياته- أن الإيلام قد يجلب الرضا والسعادة (ومن هنا جاءت كلمة السَّاديَّة: حب إيقاع الألم بالآخرين). وما زال القرآن يسمعنا فلسفته الفريدة للألم، وأنه قد يكون خيرا من حيث هو شر، وأن الألم بأنواعه: الجسدي -كما حصل مع النبي أيوب- والنفسي -كما حصل مع النبي يعقوب- إنما هو ابتلاء من الرَّب، وتمحيص، وعقوبة، ومقدمات لنهايات سعيدة أو تعيسة. في الدنيا أو في الآخرة.
والعلماء، إلى اليوم، يشددون على أهمية الألم كرُكن أساسي للبقاء. ففي حالة آشلين بلوكر، نجد أنها تخضع للفحوص المستمرة والقلِقة. لأن جسدها لن يصيح متألِّمًا من دخول البكتيريا إليه، أو من السقوط في بركة من الماء الحار جدًّا. فتصوَّر أنك تستيقظ ذات يوم مستعجلا لتلحق بموعد مع أخصائي الدم، ليشعُر لك بألم الأنيميا أو اللوكيميا (سرطان الدم). تخيل أن تفقد فجأة هذا الركن من فلسفة الحياة على رأي بنثام. هل ستعيش سعيدا أبدًا؟ أم ستفسد فلسفة حياتك لأنك لم تعد تملك الخيار؟!
أهم ما يواجهنا، ونحن نستعرض ظاهرة بهذه الغرابة، سؤال غريب أيضا. هل يدرك أمثال آشلين أن هناك ألم؟ هل فقدانها للألم الجسدي تسبب في فقدانها للألم النفسي. نحن -مثلًا- نربط الألمين -الجسدي والنفسي- في كثير من الأحيان. فسماعنا لخبر سيء قد يجعلنا نشعر بأعراض جسدية: كالصداع، وتجمد الأطراف، وضيق النفس. هل تشعر آشلين بما نشعر به؟ هل يمكن أن تدخل مستشفى أمراض السرطان وتعلِّق: يا سلام! شكرا لأنني لا أتألم؟ هل تألَّمت هي عندما قيل لها أنها لن تتألم بعد اليوم؟!
إن عدم شعور آشلين بالألم لا يلغي أيضا إحساسها بأعراض الأمراض التي تنهك جسدها. أعني بـ "إحساسها" إبصارها لكدمةٍ في ذراعها، أو نزيف، أو بأي شيء مما ننطلق إلى الطبيب فور الشعور به وملاحظته.
لقد شاهدتُ حالة من اللاشعور بالألم، كان لاشعورًا جزئيًا وربما مؤقتا، ولكنه مؤلم بحد ذاته. كان هذا في مركز السُّكري، عندما غرس الممرض المِشرط في قدم أحد المصابين بقدمِ السُّكري بدون تخدير، وبقي لخمس دقائق يدور به داخل رجله، بينما يقعد المريض مبتسما! أسئلة كثيرة ألجمتني، منها: هل لو رأى بعينه ما يحصل في قدمه سيتألم؟
وفي النهاية، الشعور بالألم وسيلة ضرورية للبقاء، كما أن فقدانه هو نوع من الحرمان من جانب أساسي من جوانب الحياة. وأستطيع أن أزعم أن النسبة الأكبر من إنجازات البشر وفنونهم وعلومهم كان الألم أباها الرُّوحي.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.