21‏/07‏/2015

ذكاء غاردنر التاسع






ربما ارتبط الذكاء في حياتنا بالقدرة الاستثنائية على حل المعادلات وتحصيل الدرجات العالية. لذا، قلما نطلق صفة "ذكي" على أحدهم إذا لم يكن من المتفوقين أو أصحاب الجوائز الوطنية. في الحقيقة، الذكاء أعمق مما نتصور. إنه خلاصة ميزاتنا عن كل أصناف الحياة الموجودة في أي مكان. العقل والتفكير والفن تميزنا بشدة، ولكن الذكاء أوسع نطاقا.
كنت أجادل أحد الأصدقاء حول تفردنا بالتفكير، كان هو في صف الإنسان وكنت أنا عاطفيا أكثر مما ينبغي. لقد تذكرت عمل النمل، وتصميم العنكبوت، وغناء الدُّوري. لكنني فيما بعد غيرت من موقفي. فالفارق الذي لا يكاد يكون واضحا يكمن في سبب التفكير. ففي حين نبذل نحن جهدا فكريا لغاية غامضة لا ندركها غالبا، تبذل هذه الكائنات جهدا لأجل البقاء. فنحن يكفينا ربع دماغٍ لنبقى، بل يكفينا أن نصير دقيقين وبسيطي التركيب كالبكتيريا لنعيش ما يزيد على ملياري عام بكل ما في الحياة من شهوة.
سأحاول المرور سريعا على نظر الوسط العلمي للذكاء، محصورا في ثلاثة علماء بارزين. لقد آمن تشارلز سبيرمان Charles Spearman بالذكاء العام. كان يرى أن الذكاء العام (أو ما كان يطلق عليه g) هو أساس تصرفاتنا الذكية، من مهارة الملاحة في البحر إلى التفوق الدراسي.
العالمان الآخران لم يوافقا سبيرمان على نظرته إلى الذكاء. بل رأيا ما يُسمى الآن بنظرية الذكاء المتعدد. فَروبرت سترنبرج Robert Sternberg ذكر ثلاثة ذكاءات مختلفة: الذكاء التحليلي، الإبداعي، العملي. بينما ذكر هوارد غاردنر Howard Gardner ثمانية ذكاءات أكثر توسعا وإحاطة.
وجدت أن من الجيد أن تكون لدينا خلفية عما نقرأ.
إن ذكاءات غاردنر الثمانية تكاد تجعل كل واحد من الذين تصادفهم على الطريق أذكياء، ولعل هذا هو سبب شهرة نظريته. فكل الذين يمكن أن تتذكر أسماءهم من العلماء أو من الأشخاص العاديين هم في الواقع أذكياء بحسب غاردنر. من منا لا يتذكر الآن آلبرت آينشتاين (الذكاء الرياضي المنطقي) أو بيتهوفن (الذكاء الموسيقي) أو النبي محمد (الذكاء الاجتماعي) أو ليوناردو دافنشي (هنا نحن بصدد ذكاءات متعددة، منها: الذكاء الفراغي التصوُّري)... إلخ.
لكن ليس كل الناس يمكن أن يكونوا أذكياء موسيقيين أو فنيين أو اجتماعيين. هناك من يفتقر إلى حس الاندغام في الموسيقى، أو تذوق الفن، أو التفكير الرياضي. صحيح، لكن ذكاء غاردنر التاسع يمكن أن يوفر علينا عناء التصنيف.
المعروف أن غاردنر تردد كثيرا قبل أن يضيف (الذكاء الوجودي) بوصفه ذكاءً تاسعا في قائمة ذكاءاته المتعددة. الذكاء الوجودي (يشمل الذكاء الديني) هو التساؤل الدائم عن الوجود وأشكاله وعلله وماورائياته. وقد يخطر ببال بعضكم (الفلاسفة). وهذا صحيح، فسقراط، أفلاطون، أرسطو، ديكارت، سبينوزا... كل هؤلاء كانوا أذكياء جدا. بل هناك فلاسفة يقال لهم (قبل السقراطيين أو السفسطائيين) مازالوا يدهشون العلم الحديث بنظرياتهم حول الطبيعة. أذكر منهم الفيلسوف العبقري أنكسيماندر (صاحب فكرة تعدد الأكوان) وَديمقريطس (نظرية الذرة، المُثبتة علميا). وهذا كان منذ أكثر من ألفي عام من الآن.
بل هناك أكثر من (الفلاسفة)، إنه المجتمع البشري عموما، ذكيٌّ ذكاءً وجوديا عجيبا. وهذا إذا كانت له أهمية فهي أنه يثيرنا فنلتفت إلى هذه التعاريج التي تزن 1.3 كيلو داخل جماجمنا. أدمغتنا التي تسعى في كل أحوالها لتبرير وجودنا والتأمل في ذاتها: في النشاط اليومي اليقظ، وفي الحلم.
الوجود لغز لم يتكفل بحله نبيٌّ أو مُصلح ديني أو اجتماعي. الوجود هو الشعلة التي تنير لنا الطريق من دون أن تضيء، والماء الذي يروينا من دون أن يكون ماء. إنه الفاكهة التي تنغلق على بذور أسئلةٍ صاخبة تزعج الإنسان. وهو دافع كل شيء: دافع القلب للانصهار في عشقٍ لا محدود، ودافع العين للإغماض والتأمل في الظلام الداخلي، ودافع اللسان للشعر والغناء والتلاوة واختراع القواميس. الوجود هو ما لا يتميز به نيوتن عن أجهلنا في الفيزياء، ولا يترفع به السنباطي عن أجهلنا بالعزف، ولا يختص به جوردانو برونو عن أشدنا خوفا من الجرأة والاعتراض.
فمن لا نصيب له من ذكاء غاردنر التاسع فليغسل قميص عقله، وليرفع صوت قلبه. ليتأكد من الفرق بينه وبين الزواحف العادية التي انحدر منها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.