21‏/07‏/2015

ليس من أجل السعادة






أذكر تلك الليلة من رمضان، عندما رفعت صوتي بصمت قائلا: لن أثق بقطع تافهة من البلاستيك!
كنت ساعتها حزينا على ضياع ما يقارب ألف صورة ومقطع فيديو من جهازي بسبب توقف مفاجئ عن العمل انتهى بالفورمات.
الكثير من القصائد الأولى، اللحظات المؤقتة، والبسمات الخاطفة يجب حفظه، لكن أين؟ 
في حوزتي رصيد باهظ من الليالي الشتائية وما قبل الفجر من كلِّ أيلول.. صور للطحالب الخضراء التي تكسو قضيبا حديديا مُلقى على شاطئ متسخ، وأصوات شتى. عندما قررت حفظ كل هذا في مكان آمن، لم أفلح.
فمن أصغر مساحة تستطيع أن تفخر بها على شريحة اليو إس بي إلى أكبر غرفة فارغة يمكن أن يوفرها لك موقع تخزين مدفوع سنويا، تظل كثيرَ الذكريات.. كثيرها جدا.
أحيانا يتحول يومنا تماما بسبب تسلسُل ضحكة عاليةٍ استمعنا إليها بعد أن انتشرت في الهدوء. من يضمن لنا أن كل هذا القمحِ من اللحظات لن يفسد؟ من يعيننا على هذا الجوع المستمر؟ ومن يلومنا على غريزة الحفظ التي تمكنت منا منذ كنا ننقش عشاءاتنا المتواضعة بالمسامير قبل 3100 عام حتى أمسينا ندون كل صغيرة وأصغر منها؟
من السهل أن نواسي بعضنا بأن تلافيف أدمغتنا واسعة وكريمة، ولكن من الصعب الاحتفاظ حتى بهذه التلافيف.. ففي لحظة من الحلم تسقط كل الرفوف ويتوقف "طاحون الذكريات" عن كل شيء.
الإلكترونيات قادرة بامتياز على نقل وجهٍ بكامل تفاصيله وخُضرته من أقصى الأرض، ولكنها عاجزة بشكل مخيف عن حفظ رمشةِ عينٍ ناعمة كان يجب أن تُصوَّر وتحفظ طويلا.
أتخيل أن هناك مورِّثات تحمل لنا ذاكرة الأجداد، كما تحمل لنا كيف نضحك ونبكي ونجوع! نولد جميعا بكم هائل من الأيام. ما الذي فعله أحد النياندرتاليين الذين تحدّرنا منهم، وما هي الوجبة النموذجية لدى سمكة تيكتاليك كانت تجذف البحر بزعانف ستصير يوما ما يدي التي أكتب بها الآن؟
سيكون عبئا ثقيلا، وبردا شديدا على حس المتعة لدينا، ولذة محاولة الاسترجاع. ولكن.. ولكن ماذا؟ أظن أن ثلاث ساعات نقضيها آخر كل يوم لجمع وتصنيف وحفظ ذكرياتنا عملا صعبا.
أتصورني أدخل محل التصوير، وأناوله قرصا صلبا فيه ما يقارب عشرة آلاف صورة وأطلب منه جمعها في ألبومات في أسرع وقت. إن قدرتي على جمع الصور والأصوات تفوق قدرتي على الحفاظ عليها. أتصور أيضا أن هذا النوع من عذابات الوجود رافق الإنسان منذ بداياته. إن الكهوف تضج برسومات وتدوينات تفوح برائحة الحياة المحمومة وعشق الأبدية.
كل شيء له ذاكرة
وعندما تحاول حفظ ذكرياتك
تشعر برغبة عميقة في حفظ محاولتك أيضا
ترهقكك الحياة القصيرة
تعبث بك رياح الساعات المتأخرة من المساء
تعيدك إلى ألبوم حياتك
وتدفعك إلى كأس الخلود
أنت في النهاية:
تفعل كل شيء ليكون ذكرى
تسعى وراء السعادة، ليس لأجل السعادة
بل لأجل راحة التذكُّر
هذا العمل الدائم في مدينة رأسك
المُضاءة بالأعصاب..


0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.