لعل الكثير منا لا يعوِّل على معاني الأشياء، الأحداث، الظواهر. إذْ اعتدنا على التقبل أو رفض الرفض بالجُملة، وهذا ربما هو ما يفقدنا المعنى الحقيقي للحياة. كثيرا ما أرى عُمَّال النظافة بجوار البيت أثناء الضحى وقد احترقت وجوههم وتبللت ملابسهم بالعرق والتعب، أراهم يضعون السمَّاعات في آذانهم وينصتون إلى أغانيهم بطمأنينة، وكأنهم يتجولون في متحف فني أو يتمشون على شاطئ. أتساءل عندها ما الذي يمنحهم كل هذا المزاج للاستماع إلى الموسيقى في هذا الوقت الذي لا يُحتمل. أتوصل في النهاية إلى أنهم فهموا شيئا لم أفهمه. ربما اضطروا إلى فهمه بطريقتهم، ولكن ماهي هذه الحياة السعيدة التي ستضطرنا إلى فهم الأشياء باستثنائية؟
نحن لا نكتسب قوة المعنى بهذه السهولة. بل ربما نعيش ما كُتب لنا من العمر ونخرج من هذه الدنيا بلا أية معانٍ. ما المعنى الذي أتحدث عنه؟ هل هو معنى السعادة أم معنى التعايُش أم معنى التضحية أم معنى الحب؟ تختلف المعاني التي نتوصل إليها باختلاف أنماط حياتنا وتفضيلاتنا وحتى تربيتنا. بل إن تربيتنا تُعد أساسا قد يقوي معانينا وقد يهدُّها.
عندما يحدث أمرٌ ما، نستجيب له بطرقنا الخاصة وردات فعلنا المبرمجة فينا. نركز على البداية، أو على النتيجة، أو على الكيفية. أيا كان ما نركز عليه فهو يمثل قوة المعنى التي نملكها ونعامِل بها الأمور ونفسر بها الحوادث. لو افترضنا أن هناك يوما في الأسبوع، يُدعى يوم الأقنعة. وفي هذا اليوم يرتدي الجميع قناعا واحدا ولا يظهر وجهه. من بين أقنعة الحب والابتسامة والحزن والتأمل والصمت والرعب والسخرية والتذمر والانتقام، ما هو القناع الذي ستفضل ارتداءه؟
قمت بطرح هذا السؤال على مجموعة من الأصدقاء المقربين، فاختلفوا في اختياراتهم. منهم من اختار الابتسامة ومنهم من اختار الحب ومنهم من تردد طويلا قبل أن يختار قناعه الخاص. أردت أن أفاجئهم في النهاية بأن ليس هناك من داعٍ لإخفاء وجوهنا والاختباء وراء الأقنعة. ولكنني رأيت أن هذه المفاجأة باردة وفلسفية أكثر من اللازم. فقد شعرت بشعور لطيف ساعتها وأنا أراقبهم يتنقلون بين المعاني المختلفة ويختارون معانيهم. اختيارهم لقناعٍ ما لا يعني رفضهم للقناع الآخر، ولكن هذا هو ما أرادوه تلك اللحظة.
ونحن بينما ننام ونستيقظ ونتحدث إلى أهلنا وأحبابنا وإلى الغرباء، نبحث عن قوة المعنى. هذه القوة التي تساوي بالضرورة معنى الحياة بالنسبة إلينا. إن الأطفال هم الأكثر تذبذبًا بين المعاني. ستكتشف هذا وأنت تتابع طفلا يلعب بألعابه الكثيرة. يتفاوتون في قوى المعنى، بسبب تربيتهم وبسبب شخصياتهم. منهم من يقدر البساطة ومنهم من يحب التملك، وهم في ذلك يتهيأون لأن يصبحوا راشدين بسطاء في اختياراتهم أو جشعين. نلاحظ كل يوم منديلا ملقى في مكانه الخاطئ، فنستنتج بسرعة أن الذي ألقاه تنقصه القوة التي يرى بها الطريق بمعنى آخر.
وفي الصورة التي رأيت أنها مناسبة لهذه الفكرة، تكمن قوة المعنى. فنحن دائما نحمل معانينا الخاصة، ننتقل بها من مكان إلى آخر ونفسر بها الأشياء والأحداث والظواهر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق