21‏/07‏/2015

اكتشف الصغير بداخلك






"الحياةُ مع الصِّغار تذكِّرُنا بأننا لا نزال صِغارًا، لكن منزوعو البراءة!".
الاقتباس من سماوات جائعة، وسأتناول بعض الروابط العميقة بين طبيعتنا وطبيعة الأطفال في ثلاثة مواقف.
1- هوسُ التكرار:
من يلاعب منكم طفلا سيلاحظ أن الطرق إلى إضحاكه كثيرة، ولكنّ معظمها يتركّز في تكرار الحركات. كنت أمس ألاعب نسرينة (أخيّتي)، أطلب منها إغماض عينيها ثم أضع شيئا ما على رأسي، وعندما تفتح عينيها تقوم بالبحث عنه باهتمام. ثم عندما تيأس أحني رأسي فتسقط القطعة!
لاحظت أنها لم تلتفت إلى الجزء المضحك من اللعبة، فقط كانت تبحث باهتمام. ولكن لمراتٍ عديدة، كانت تضحك بروعة، وتطلب مني إغماض عينيّ بينما تضع القطعة على رأسها.
التكرار إذن هو ما يضحك، وليست الحركة. فأنت تستطيع أن تضحك أي طفل بمجرد إعادة نفس المشهد (مع بعض الأصوات التي توحي بالمفاجأة، هييييه).
ويركز ممثلون مثل (شارلي شابلن) على هذا الخيط المشترك بيننا والأطفال، لذا أفلامهم تضحكنا!
وفي النكت (الجمل المضحكة)، يعد التكرار والمفاجأة عنصرين رئيسين لنجاح النكتة. وأحيانا (الجنس أيضا).
وعندما نفعل شيئا معينا (نخرج إلى البحر رفقة صديق لطيف) ثم نعود لمشاهدة فيلم قديم فنشعر باللذة. نطمع في اليوم التالي في الاتصال بنفس الصديق والبحث عن فيلم مشابه جدا لفيلم الأمس.
فما نضحك به على الأطفال، من تكرار حركات عادية قد لا تسلّينا، هو نفسُه ما تضحك به علينا الطبيعة. إذ إن علّة الضحك واحدة، والذي يختلف هو المشهد والطريقة.
2- البكاء:
ثمّة ما يمكن أن نطلق عليه Stigma أي صفة مُلازمة في حياة الأطفال، مثل البكاء عندما لا يتوفر لهم ما يريدون.
والآن، تخيلوا معي رجلا راشدا يمشي في الشارع ويبكي لأن زوجته رفضت الخروج معه إلى السوق! أول تشخيص يمكن أن نفكر به هو أنه رجل مجنون. ولكن تعالوا وانظروا إليه وهو يبكي عند حدثٍ مؤلم. سيختلف التشخيص تماما، فهو حزين ويستحق المواساة.
إن الحدث المسبب للبكاء هو نفسه عند الراشد والطفل: الوقت الذي لا ينفع فيه إلا البكاء. ولذا فإن الطفل يبكي لأتفه الأمور (بالنسبة إلينا) فهو لا يملك أي أسلوب تعبيري لغوي أو انفعالي سوى البكاء. لكننا نملك اللغة والغضب والصمت. وهي الأساليب التي تفشل حين نبكي مغلوبين على أمرنا.
وها هي طبيعة البكاء مشتركة بيننا وبين صغارنا. إنه تنفيسٌ Catharsis ضروري عندما لا نفلح في الحصول على ما نريد.
3- نظرية العقل Theory of mind:
تعني القدرة على تقدير رغبات ومعتقدات وحاجات الآخرين والإيمان بأنها موجودة لديهم كما هي موجودة لدينا.
في المكتبة الطبية بجامعة جازان ستجد حقلك المناسب لرصد ملاحظات هذه النظرية! فبينما أنت تقرأ في هدوء، إذ بثلاثة من الطلاب يجلسون بالقرب منك ويتنقلون بين الموضوعات بكل حرية. قد تنزعج، ولكن الأفضل لك أن تبحث عن خلفية هذه التصرفات غير الحضارية.
ما الذي يدفعهم لفعل هذا؟ إنهم لا يريدون إزعاجك، فهم قد لا يعرفونك. ولكن نظرية العقل عندهم لم تنضج بعد. فهم يؤمنون بأن لهم الحق في أن يتكلموا ويضحكوا بصوت عال، ولكن يهملون حقك.
وهذا تماما ما يفعله الصغار، عندما يقفون أمام شاشة التلفزيون للبحث عن شيء، فهم لا يتنبهون إلى أنهم يشتتونك، لكنهم معذورين. فمراكز الحُكم والتمييز (نظرية العقل) لديهم ليست مكتملة تماما.
وفي نظري، هي لا تكتمل تماما إلا في حالات نادرة، عند الشخصيات التي تتجاوز الذات في الأنبياء والعلماء الصادقين. وهي فينا ناقصة، بل أحيانا تنقص بوضوح. وبلا شك أنك تذكر موقفك من موضوعٍ معين، الذي كنت فيه أنانيا جدا، وندمت عليه؛ لأنه تسبب في إزعاج الآخرين.
4- التجريب:
كلنا نعلم قصصا من عشق الأطفال لاكتشاف كل شيء.
عندما تعود من عملك ببعض الحلوى الجديدة، تجد الطفل مرحًا ومحتفلا بهذه المفاجأة، يطاردك ويبكي كأنه يقول لك (هيا، أعطني حلواي فأنت لم تعد تثيرني). ولدقائق، بينما ترتاح قليلا، تعود وتجد الحلوى منثورة في كل مكان. إنه لم يحبّها، ولكنه لا يفوّت الاندهاش كل مرة.
وللأسف، أشد ما يوقع الكبار في الخيبة والملل هو تبلُّد الشعور بالاندهاش لديهم. فهم لا يفرحون بالحلوى بقدر ما يفرحون بالسفر إلى فرنسا، وهم لا يستكثرون ريالين بقدر ما يستكثرون مليونين (هناك كبار تبلّدوا تماما).
فحب التجريب والاكتشاف هي الطبيعة التي لم تختف بمجرد أن اكتشفنا أننا كبرنا، بل ما تزال بنفس قوّتها في الجوانب الأنسب لنا في الحياة. ومسؤليتنا التي تناط بنا كراشدين هي ألا نفقد هذه الطبيعة ونتحجّر!
هذه فقط بعض الروابط، والمُلاحظة البسيطة قد تعطينا الكثير من أسرار عالم الأطفال وعالمنا. وهذه أمثلة متواضعة لا أظنها دقيقة علميا، وبإمكانكم البحث في نظرية العقل والصفة الملازمة، فهي موضوعات ممتعة في علم النفس التربوي والمعرفي.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.